حينما أخذت الصلابة العربية تتهاوى، وأخذت الفكرة الإسلامية الأصيلة تتوارى، بعد اكتمالها واشتداد عودها في زمن النبوة، نمت الحاجة إلى الإصلاح الديني في الفكر الإسلامي، وتزايدت بمرور الوقت.

والإصلاح الديني يتم تناوله من خلال مفهوم التجديد الإسلامي، والذي يعني باختصار إعادة بث وبعث ما اندرس من التعاليم الفقهية والدينية بحسب آراء المفتين والمجددين، مما يعني أن تكون مهمة الإصلاح هذه بيد الفعل الديني ووفقًا لخطابه.

وهنا مكمن الخطأ، ومكمن الخطورة في نفس الوقت، ففي عالم اليوم لا يمكن معرفة مدى سلمية التدين أو عنفيته بشكل تلقائي ومباشر؛ لأن التفسير البشري وحده هو ما يحدد طبيعة التدين، وكل آراء الجماعات العنفية في الإسلام قائمة على تفسير بشري، وبأدوات وآليات عقلية ومنطقية صنعها أولئك البشر، لإيصال أمر إلهي حمّال أوجه، وهذا يشمل السنة النبوية التي رويت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- باعتبارها وحيًا بطريقة غير مباشرة، عند من يؤمن بذلك، وهم المقصودون بهذا الحديث، أما أولئك الذي لا يؤمنون بالسنة مطلقًا فلا حاجة بهم لهذا الكلام.

ومما يعقد الأمر ويجعله أمرًا غاية في الصعوبة، أنه لا توجد جهة واحدة يمكن أن تصدر حكمًا نهائيًا يضع النص في سياقه، مما يجعل المؤسسات الدينية عير فاعلة في إطار مهامها الرئيسة، لكثرة تعارضات الأحكام التي أخذت صفة القطعية والنهائية في أذهان منتجيها ومريديها، مما يضع أمامنا فراغًا هائلًا لا يسد، مهما تعددت المؤسسات الدينية وتنوعت بحسب طوائفها ومذاهبها وأحزابها، وهنا يملأ المتطرفون والآراء المتطرفة هذا الفراغ في عالم تلعب فيه العوامل الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والنفسية الأخرى، أدوارًا مؤثرةً.

والرأي المتطرف لا يأتي بالضرورة بصورة غير قانونية، كما أنه لا يقود دائمًا إلى العنف، وفوق هذا فإن بعض القوانين تحمي الأشخاص الذين يتبنون أيديولوجية راديكالية، ما داموا لا ينتهكون الحريات المدنية لغيرهم، ولكن بمجرد أن تحض وجهة النظر الراديكالية على العنف أو تضع قيودًا على قدرة الآخرين للوصول إلى أهدافهم، تخرج هذه الآراء من دائرة حرية التعبير التي يمكن أن يحميها القانون، وهنا يبدأ التطرف بتشكيل حالة من الخطر على المجتمع.

ونظرًا لعدم وجود برنامج في مكافحة التطرف يثمر في جميع السياقات، ويناسب كل الحالات، التي تتشكل بقوالب مختلفة، وسياقات متغيرة كل مرة، فإن ما يثمر -من وجهة نظري-، هو العمل على ثلاثة مستويات:

الأول: العمل الوقائي الاستباقي، والذي يجب أن يركز على منع انتشار الرأي المتطرف ورواجه، وتسويقه، حتى لو لم يبدو أنه يتجه إلى شرعنة العنف، والأخير بالطبع مجرم بداهةً، ويجب أن يتجاوز العمل الاستباقي المشار إليه عملية إنتاج الآراء المتطرفة، وتجفيف منابعها، إلى خلق مجالات أوسع للبهجة والفرح والمتعة المباحة، والتي هي أحد أهم معالجات ومصدات الفكر المتطرف، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أهم مرتكزات العمل الوقائي الاستباقي هي القابلية للتنبؤ المسبق والكشف عن الحالات التي تحتمل إنتاج الصراعات أيًا كان نوعها، أو عدم وجود تكامل اجتماعي، أو دورة اجتماعية متكاملة، تضمن حياة معيشية جيدة، وفقًا لمعايير دقيقة.

الثاني: مراقبة الحراك المتطرف، والفعل المتطرف، بمراقبة الخطاب الديني، أو الخطاب الاجتماعي الذي يسوّق نفسه عبر منفذ رائج شعبيًا وهو الدين.

وعملية رصد هذا الحراك، ومراقبته باعتباره وضعًا رديئًا وزائدًا عن الوضع المعتدل، ووضع حزم متكاملة من البرامج المعالجة والواقية منه، كفيل باستمرار دورة الحياة في جريانها بكل سلاسة ومرونة، كما أنه -أعني الرصد والمراقبة والمعالجة- مساهم رئيس في تقبل الجديد والطارئ النافع على مجتمعات تحاول الخروج من شرنقة المعيقات الحضارية بتجاوز التابوهات الدينية والاجتماعية.

وتشمل مراقبة الحراك المتطرف كذلك مراقبة المجموعات أو الأفراد الذين ينتجون التطرف، ويشرعنون العنف بأنواعه سواءً اللفظية، أو العملية.

الثالث: العمل على خلق منظومة متكاملة من الإجراءات تكفل عدم إنهاء الفعل المتطرف، وعدم تكراره، وذلك بسن نظام شبيه بنظام مكافحة جرائم الإرهاب وتمويله، والتركيز على حماية الحريات، وفقًا للنظرية الاجتماعية والسياسية التي تضمن أمان المجتمع وانضباطه وسلمه، بما أشار إليه الخطاب الملكي الكريم في افتتاح أعمال السنة الثانية، من الدورة السابعة لمجلس الشورى، في ديسمبر 2017: (لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالًا، ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال).

وثمة أمر مهم يجب ألا نغفل عنه، وهو أن يكون أي برنامج لمكافحة التطرف خاضعًا للتقييم، بشكل مبكر وبشكل دوري، وأي برامج في هذا الصدد غير خاضعة للتقييم فهي لا تقدم سوى التضليل، وهي عديم القيمة بكل تأكيد.

وتأتي عملية التوسع في الوظائف الدينية كعملية توسيع لدائرة هذه الراديكالية، التي أشرنا لها، وذلك بتمدد الأشخاص الراديكاليين الذين يتبنون مواقف متطرفة ينشرونها بين الناس، عبر منابر تلك الوظائف الدينية، والذي من المحتمل أن يفلتوا من المراقبة، بسبب عدم دعوة آرائهم المتطرفة تلك للعنف، تموضعًا وتمرحلًا لا أكثر، ولكن حتمًا هي تدعو لتكبيل حريات الناس في ممارساتهم الحياتية التي تحتملها سعة الإسلام وتسامحه.

ومن هذا المنطلق فإني أجزم أن تقليص الوظائف الدينية ودمجها، هو من أهم منطلقات الإصلاح الديني الحقيقي، فهذه العملية كفيلة بوقف هدر مالي كبير، لا يحظى به إلا بعض المتدينين ذوي الوظائف المتعددة، وهي كفيلة أيضًا بتجويد الرقابة على الخطاب المتطرف، فيمكن إلغاء كل الوظائف للوعاظ ودعاة مكاتب الدعوة، وتوعية الجاليات، ورجال الهيئات، وغيرها، وتحويلها إلى سلم وظيفي رسمي لأئمة المساجد والجوامع، على أن يقوم إمام المسجد بمهمة الدعوة وتوعية الجاليات وتدريس القرآن الكريم، بالتعاون مع مؤذن المسجد، ويكون لكل مسجد لجنة من الحي مؤهلة فيها الكفاية والكفاءة العملية والعلمية والوطنية، تدير شؤون الدعوة والإرشاد وتوعية الناس، وتدريس القرآن الكريم، مع الأخذ بعين الاعتبار منع تسلل كوادر التنظيمات الإسلاموية إلى هذه اللجان، كما يحدث مع بعض اللجان العاملة اجتماعيًا، وللحديث بقية، حول ضرورة تقليص الوظائف الدينية.