صليت الجمعة في مسجدٍ في لندن يتبع لإحدى الدول العربية، جزى الله من بنى المساجد خيرًا، فقد جاء في الحديث (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ) رواه البخاري ومسلم، ولكن ساءني خطبة الخطيب في ذلك المسجد، لأن بينها وبين المنهج النبوي أمدًا بعيدًا، فتلك الخطبة لا تختلف عن ما بثته بعض القنوات ووسائل التواصل- من دعوة للتمرد على الحكام، تولى كبرها آنذاك أصحاب التهييج «الإخواني واللبرالي» في فترة ما سُمي بـ«الربيع العربي»، والذي هو في حقيقته ليس ربيعًا للمسلمين، بل هو جدبٌ، وقحطٌ، وأشلاء ودماء وشر، لكن أهل الضلال تعودوا على تسمية الأشياء بغير اسمها.

ثم إن ما قاله ذلك الخطيب إنما هو قناعات ورؤى وأفكار خاصة به، لا علاقة لدين الله بما قال، والشرع عندما أوجب الانصات للخطيب، وعدم الانشغال عنه بكلام أو مس حصى ونحوهما، إنما أوجبه ليسمعوا منه ما أمر الله به ورسولُه، لا ليسمعوا قناعاته الخاصة وتحليلاته التي لا دليل عليها، بل إن الدليل يخالفها، فمثلا ذلك الخطيب الذي سمعت خطبته، أكثر في خطبته من تشبيه الحكام بالفراعنة والطواغيت، ودعا أهل العلم وعموم المسلمين ألا يكونوا في صف حكامهم ولو كانوا مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يذكر دليلًا على ذلك، بل ذكر تعليلًا عليلًا بل ميتًا فقال: الحكام معهم القوة والعسكر.

فهو بهذا يكفر الحكام، ويشبههم بفرعون القائل (أنا ربكم الأعلى)، ويدعو لمنابذتهم مخالفًا بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، فيا سبحان الله: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ولا ينزِعَنَّ يدًا مِن طاعة) وهذا الخطيب يدعو من منبر المسجد لنزع اليد من الطاعة، أليست دعوة الخطيب هذه محادة ومعاندة ومناقضة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

ثم لماذا التحريش والتفريق بين المسلمين شعوبًا وحكامًا؟ ثم لماذا يُنسَب ذلك الضلال إلى الإسلام، ويُعلَن ظلمًا وزورًا على منابر الجمعة؟ أليس الدين يأمر بالأخوة والمحبة، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم؟ والجواب: بلى والله، ولكن الخطيب كما قلت مخالف للهدي النبوي، وموافق للتحريش الذي هو من عمل الشيطان، ففي الحديث (إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ) والخطيب مع الأسف سلك مسلك الشيطان في التحريش سواء بسواء.

والعجب أن هذه خطبة في بلد غير مسلم، والمسلمون فيه يحتاجون من يبين لهم أحكام دينهم، فما أكثر المستجدات الفقهية التي لا يعرفون حكمها، ويحتاجون أيضًا من يؤكد أهمية العقيدة الصحيحة والتمسك بها، ويبين محاسن الإسلام، ويأمرهم بأن يكونوا قدوة حسنة في تعاملاتهم، ليكونوا دعاة إلى الله بسيرتهم الحسنة، وليكونوا وجهًا مشرقًا يمثلون به بلادهم.

أما المصادمات والغوغائيات والتوترات والشتائم، فلا فائدة منها، وليس مكانها المساجد.

الخطيب الناجح: هو من يجعل الناس يخرجون من المسجد وقد زاد إيمانهم، وزاد حبهم لله ولرسوله وللمؤمنين، وزادت طمأنينتهم وراحتهم، وتفقهوا في دين الله، فكانوا مفاتيح للخير، مغاليق للشر.

أما من يهيج الناس، ويُوترهم، ويُفرقهم، ويملأ قلوبهم حقدًا وغيظًا، ويجعلهم غير متصالحين مع أنفسهم فضلًا عن غيرهم، فليس مكانه منبر الجمعة.

فحري بمن وفقه الله لبناء تلك المساجد، التي هي بيوت الله، أن يجعل هذا الموضوع في اهتمامه، ويختار للمنابر من كان مقتديًا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عِلْمه وسَمْته وخُطَبه.