ركزت السياسة السعودية منذ توحيدها على تبني سياسات متوازنة مع دول العالم كافة، تقوم على التعاون الإيجابي واحترام سيادة الدول على أراضيها، وعدم التدخل في شؤونها، والابتعاد عن أساليب المهاترة والتراشق بالاتهامات والإساءات، إضافة إلى التعاطي الإيجابي مع الدول التي تتعرض لكوارث أو أزمات. وظل هذا النهج الإيجابي الحكيم سمة ملازمة للمملكة أكسبها الاحترام والتقدير والمكانة الفريدة التي تجدها في كافة المحافل الإقليمية والدولية.

هذا النسق الدبلوماسي المتوازن لم يكن مقصورًا على التعامل مع الدول الأخرى، بل امتد ليشمل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المتخصصة كافة، حيث ظل المندوبون السعوديون يتعاطون مع كل القضايا – لا سيما التي تخص المملكة – بكثير من العقلانية والاحترافية والرغبة في إظهار الحقائق وتعزيزها، والإعراض عن التجاوب مع محاولات الاستفزاز والاستهداف، بل إن الجهد السعودي شمل بقية الدول العربية والإسلامية التي يلجأ ممثلوها للتنسيق مع نظرائهم السعوديين في كافة القضايا العامة.

خلال الفترة الماضية تزايد الاهتمام العالمي بالقضايا الحقوقية، لا سيما المتعلقة بحقوق الإنسان، والتي استغلتها بعض الدوائر والمنظمات لتنفيذ أهداف ومآرب سياسية وأجندة خاصة أبعد ما تكون عن تلك القيم السامية، وحاولت العديد من الجهات المشبوهة النيل من المملكة عبر ترديد مزاعم وأكاذيب لا تمت إلى الواقع بأي صلة، وهو ما دفع ممثلي المملكة إلى الرد عليهم وتفنيد ترهاتهم، وحققوا مكاسب حقوقية متعددة.

وفطنت القيادة السعودية إلى هذه المحاولات، لذلك ركزت على تعزيز ممثلياتها في تلك المنظمات بكوادر حقوقية وطنية ذات تأهيل عال في مجال حقوق الإنسان، وهو ما أسهم في ترقية وتعزيز أداء البعثات الدبلوماسية، حيث كان الرصد يتم بصورة دقيقة لكافة المؤامرات التي تحاك ضد المملكة وتتخذ في مواجهتها الإجراءات الكافية، تلك المساعي المتواصلة أدت إلى تفاعل المجتمع الدولي مع ما تبذله المملكة من جهد للتناغم مع متطلبات المجتمع الدولي في الجوانب الحقوقية عبر تطوير منظومتها القضائية، وبذلك أجهضت البعثات السعودية بمساعدة الأشقاء والأصدقاء في تلك المنظمات العديد من المحاولات الفاشلة التي كانت ترمي لإدانتها بذرائع واهية، ليس هذا فحسب، بل إن المملكة تمتعت بعضوية العديد من المنظمات الحقوقية المتخصصة.

وامتدت سلسلة المكاسب لتشمل تأكيد الأمم المتحدة أن السعودية تأتي ضمن 36 دولة أوفت بالتزاماتها الدولية تجاه الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان من بين جميع دول العالم التي وقعت على تلك المعاهدات، كما وجهت الخارجية الأمريكية إشادة واضحة خلال الفترة الماضية بالجهود التي تبذلها المملكة في مجال مكافحة الإتجار بالأشخاص، مؤكدة أنها تواصل تقدمها المشهود في حماية وتعزيز حقوق الإنسان بصورة عامة، ومكافحة الإتجار بالبشر بشكل خاص.

وما من شك في أن هذا التقدير العالمي المتواصل للجهود السعودية في المجال الحقوقي أتى نتاجا لعمل دؤوب ومنظّم للخارجية السعودية، خصوصًا ممثليها في المنظمات الدولية. لذلك تابعت بتقدير كبير التعديلات الأخيرة التي شملت تعيين عبدالمحسن الخثيلة مندوبًا دائمًا للمملكة في جنيف، وهو الذي يملك رصيدًا كبيرًا وخبرة متميزة في مجال حقوق الإنسان بحكم عضويته في هيئة حقوق الإنسان ممثلًا عن وزارة الخارجية ووكيلًا مساعدًا للشؤون الدولية.

كذلك يجيء الأمر الملكي الأخير بتعيين الدكتور عبدالعزيز الواصل مندوبًا دائمًا للمملكة لدى هيئة الأمم المتحدة في نيويورك خلفًا للمتميز الدكتور عبدالله المعلمي الذي بذل جهودًا هائلة يعرفها كل العاملين في المجال الحقوقي وحقق العديد من المكاسب.

ومما يثلج الصدر أن خلفه، الدكتور الواصل يملك بدوره معرفة وافية وخبرات تراكمية في هذا المجال بحكم عمله مندوبًا دائمًا في جنيف منذ عام 2016، وهو ما يؤكد اهتمام القيادة بعكس التطورات الملموسة التي تشهدها المملكة في مجال حقوق الإنسان، لا سيما خلال فترة ما بعد إقرار رؤية 2030 التي وضعت هذه القضية في صلب اهتماماتها وأولتها تركيزًا واضحًا.

إن كان من توصية أو إسهام في كيفية زيادة المكاسب التي تحققت فتتمثل في ضرورة الانتقال من مرحلة رد الفعل إلى المبادرة بالفعل لأنها أشد تأثيرًا وتكفينا مشقة التعامل مع الترهات التي يثيرها بعض أصحاب الأجندة الخاصة والمآرب التي لا تخلو من الغرض والمرض.

لذلك أرى أهمية التركيز على تعريف الآخرين بواقعنا المزهر وماضينا العريق، وتسليط الضوء على ما تم إنجازه خلال الفترة الماضية، وإيضاح الطفرة التشريعية الهائلة التي تشهدها بلادنا وخصوصًا في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز والتي يقف وراءها ويتابعها ولي عهده الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله.

وهناك العديد من الآليات التي يجب الاهتمام بها، مثل إقامة السمنارات والندوات المتخصصة داخل البلد وخارجها وغيرها من ورش العمل لإيضاح الإصلاحات القانونية التي تجري في المملكة، على أن يرافق ذلك جهد إعلامي مدروس تقوم به الملحقيات الثقافية والتعليمية في وسائل الإعلام الغربية، لأن ذلك يصنّف ضمن الإجراءات الاستباقية التي يكون مفعولها أشد وقعًا وأكثر تأثيرًا.

ختامًا فإن التعاون مع بيوت الخبرة العالمية الموجودة بكثرة في الدول الغربية، إضافة إلى تعزيز دور منظمات المجتمع المدني يمكن أن يكون عاملًا مساعدًا في تحقيق تلك الأهداف، دعوة العديد من الخبراء الدوليين في مجال حقوق الإنسان للمشاركة في الندوات والمؤتمرات التي تقام في مجال القانون وحقوق الإنسان وتمكينهم من التعرف بصورة مستقلة على حقيقة واقعنا وخططنا المستقبلية للمزيد من الإصلاح والتطوير، فهم سيعودون حتمًا إلى بلادهم بمفاهيم مغايرة لما يضعونه في أذهانهم نتيجة لدعاية مضللة نشطت ضدنا كثيرًا خلال العقود الماضية وآن الأوان لتفنيدها وتصحيحها.