المجرمون لا تهمهم اللباقة في الحديث، ولا الإنسانية في التعاطي مع الآخر، يعني لهم الخراب والدم فقط، هم أكثر من يقفون في وجه التغيير والتنوير.. انتهازيون في طباعهم؛ منافقون في صفاتهم، يكذبون وهم يعلمون أنهم يكذبون؛ ويعلمون أن الجميع يعلم أنهم يكذبون، يأخذون تعاليمهم حتى من القتلة، ويعيشون صفاء ونقاء مزيفا مع المستضعفين.. يجيدون فنون التلون وارتداء الأقنعة.

وفي السياسة مسموح استخذام نوافذ المناورة والمراوغة، وربما حتى الازدواجية، لذلك من الصعب للغاية العثور على من يمكن أن يكون صادقاً بالمطلق في عوالم السياسة، والباب مفتوحٌ على مصراعيه في هذا الصدد للتحالفات حتى لو مع إبليس؛ طالما أن ذلك يحقق منافع سواء كانت شخصية أم حزبية، لكن الخطر يكمن في المصالح الطائفية، فالطائفية تتعارض مع معايير الإنسانية على حساب التفرد بالمبدأ والفكرة والرأي؛ حتى لو كانت النتائج كارثية.

ولقد أتيت على ذكر الطائفية، لألج إلى قضيتي هذا اليوم، وبطلها حسن نصر الله زعيم ميليشيا حزب الله في لبنان، والحاكم الفعلي للدولة بقوة السلاح خير دليل، يقول الرجل في خطابٍ متلفز قبل أيام في معرض رده على السؤال التقليدي حول من كلف حزب الله بالدفاع عن لبنان «حل عني.. الله كلفني».

وبرغم أن هذا الحديث أثار موجة كبرى من السخرية في الشارع اللبناني والعربي، إلا أن له عددا من الدلائل، إذا أخذنا الأمر بعيداً عن الهزل.

برأيي أن نصر الله أراد إيصال رسالة للرأي العام في لبنان والعالم بأنه الحاكم الفعلي للدولة والآمر الناهي؛ وأنه غير معني بدخول البلاد في فراغ رئاسي، إذا فهمنا أن على رئيس الجمهورية ميشال عون، مغادرة قصر بعبدا بعد شهرين، وهو –أي نصر الله– غير مهتم بالسجال الذي يدور بين عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الذي يحظى بدعم رئيس البرلمان نبيه بري بشأن عدم توريث التيار العوني لرئاسة الجمهورية من خلال زعيم التيار صهر الرئيس جبران باسيل، ويمكن لنا أيضاً ربط تلك التفسيرات بخشية نصر الله من طرح مبادرة فرنسية تعمل على حل الأزمة السياسية في لبنان، حسب تسريبات سياسية في باريس، قد تعمل على كف يد حزب الله عن الدولة، بالإضافة إلى أنها من المفترض أن تخرج لبنان من العباءة الإيرانية، من هنا يمكن لنا فهم أنه من مصلحة حزب الله دخول البلاد في فراغٍ دستوري، لمواصلة السيطرة على البلاد، بما في ذلك رئاسة الجمهورية.

وأتصور أيضاً أن ضجيج السيد خلال الأيام الفائتة يندرج في إطار الخوف من انكفاء الدور الإيراني في العراق، بعد التطورات التي تشهدها الساحة العراقية، فطهران كما يتضح بدأت تستشعر خسارة الورقة العراقية، بدليل ابتعاثها عددا من المسؤولين إلى بغداد، وعلى رأسهم قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني؛ وهذا ما دفع زعيم ميليشيا حزب الله لدعوة العراقيين على العمل بحكمة، لإنقاذ العراق، من أجل الأمة كلها، حسب زعمه، وذلك في حقيقة الأمر مثيرٌ للاستغراب، إذ يدعو لحلحلة الأمور في العراق، وهو من يعطل الحياة السياسية بالكامل في لبنان.

كما يتضح أن نصر الله بات يعاني واقعياً من التململ الذي تعيشه القواعد الشعبية والبيئة الحاضنة والمؤيدة له من جميع الطوائف، لا سيما الطائفة الشيعية، ويهاب من ضغطها لإعادة النظر في انخراطه الإقليمي، الذي يدفعه مرغماً لتنفيذ أجندات إيران ويعمل على تحقيق مصالحها، ويجبره لأن يكون حاضراً في صراع المحاور الإقليمي. وذلك النفور من سياسات الحزب، نابعٌ من خشية المواطن اللبناني من مغامرة جديدة، تؤدي لعمل عسكري مع إسرائيل، يكون هو الخاسر الأكبر من تلك المواجهة، ناهيك عن أن ذلك سيقود البلاد إلى دوامه جديدة من المقامرات غير المسؤولة، التي لطالما اضطلعت بها الميليشيا الإرهابية، دون النظر إلى أدنى معايير مفهوم الدولة والإنسان.

أتفهم كثيراً التخبطات والانفلات اللفظي الذي يعيشه «أبا هادي»، وأعي تماماً أنه مؤشر لأي شكل من أشكال الاحتقان أو الانحسار السياسي في طهران، لكني لم أجد تفسيراً لنسفه مبدأ احترام المواطن اللبناني والنظر له بهذا الشكل من الدونية، الناجمة عن غطرسة نشأت داخل نفس الرجل، الذي يعاني بدون أدنى شك من انفصال عن الواقع والطبيعة.

إن الحقيقة المؤلمة والتي يجب أن يعيها جميع اللبنانيين، هي أن سحق الأبرياء على أساس ادعاءات كاذبة يجب أن يتوقف، بوضع الخوف من السلاح السائب وراء الظهور، والنظر إلى الأمام من خلال بناء حائط صد في وجه هذا الحزب، الذي أثبتت الأيام والسنين أنه تخريبي متطرف، ولا تعنيه مصالح البلاد والعباد، وهذا يتطلب موقف رجل واحد، في مواجهة عدو تاريخي واحد، فليس من مصلحتهم أن يتم تعميم النظرة لحزب الله لتشملهم، وهو الذي يُنظر له من قبل العالم أجمع عدا طهران ودمشق بعين الاتهام.

سأنتهي عند احتفال الحزب مؤخراً بالذكرى الأربعين على تأسيسة، فقد اختاروا له عنوان «أربعين ربيعاً».

برأيي لو تم اختيار «أربعين عاماً من الإجرام الأنثروبولوجي»، لكان أجدر كونه يختصر تاريخ زعيمه.. فهو مجرمٌ بالفطرة.