اعتدنا خلال السنوات الماضية على ترديد عبارة عزوف القراء عن الكتب وعدم إقبال الناس على القراءة. باتت هذه العبارة تمثل شعارا لكل من أراد انتقاد أي مجتمع أو وصف واقع شبابه في الفترة الراهنة. بيد أن مرددي تلك الشعارات لم يذهبوا باتجاه أن القراءة غير التخصصية هي هواية بالدرجة الأولى، ثم لماذا نعاتب القارئ في الأساس الذي تغير وفق الأدوات الجديدة، وتأقلم معها دون أن نلوم الطرف الآخر. وحينما نتطرق للطرف الآخر نعني المؤلفين والمكتبات، وإن كنت أرى أن المؤلف بدأ في مواكبة واقع المتغيرات، ولكن المكتبات ظلت أسيرة ماضٍ، شامخة في جمودها وانعزالها.

العملية اختلفت الآن والمعطيات تغيرت، فلم تعد المكتبات في الخارج ساكنة وجامدة ومنغلقة على ذاتها، بل أضحت أكثر التصاقا بواقع المجتمعات ورغباتها. وحينما نذكر العزوف عن المكتبات لدينا، فإن اللوم لا يقع على القارئ، بل على تلك الصروح الثقافية التي لم تقدم أي نوع من المبادرات لجذب الناس إليها. فأنسنة المكتبات واضفاء الجانب الترفيهي عليها، وتقديم محتوى نوعي يناسب رغبات الجمهور، أصبحت ضرورة ملحة. فالمتاحف التي تحاكي الماضي، نجحت اليوم في الوصول بأسلوب عصري، لدى الكثير من فئة الشباب، وأصبح الكثير من مرتادي الأماكن التاريخية والمتاحف من تلك الفئة، فما حققته المتاحف ليس مستحيلا أن تحققه المكتبات، وخصوصا أنها تمتلك من الأدوات ما يجعلها أكثر معاصرة للواقع.

المكتبة تعني أنها واحة علوم عدة علمية وأدبية، ونهر متدفق من المعلومات القيمة، فكم من مسارح ومعارض ومحتوى مرئي يمكن أن يترجم تلك الواحة إلى أماكن أكثر شبابا وتماشيا مع رغبات جمهور اليوم.

المكتبات يجب أن تتحرر من قالب الجمود الذي اعتادت عليه، ويجب أن تخرج من إطار قاعدة أن جمهوري نخبوي وهو يريد الوصول لي، فالقاعدة اليوم تقول: إن لم تبحث عن جمهورك لن يأتي اليك.

ويمكننا الاستعانة بالعديد من بيوت الخبرة في هذا المجال ممن حولوا المكتبات إلى ساحات تجمع وملاذ لكثير من الفئات، في إطار ثقافي جاذب، ولنا في العديد من التجارب الإقليمية والدولية تمثل نماذج. مكتبة الإسكندرية حينما واجهت ذلك العزوف «المنطقي» تحولت إلى منارة جاذبة لكل قاطني المحافظة، بتحويل ساحات تلك المكتبات إلى متاحف لعدد من المؤلفين المصريين وفتح باب الزيارات بمختلف أنواعها.

فلكم أن تتخيلوا لو تواصلت إحدى مكتباتنا مع أسرة الراحل غازي القصيبي -مثلا- للعمل على متحف مصغر من مقتنياته، ألن يصبح ذلك نقطة جذب للجمهور، خصوصا أن بلادنا تزخر بالعديد من النماذج الثقافية والعلمية المميزة، الذين يمكن إعادة تسليط الضوء عليهم بعيدا عن مؤلفاتهم، ويمكن أن تكون تلك الوسائل الجاذبة وسيلة لإعادة الجمهور لقراءة مؤلفاتهم.