لا يمكن فهم خريطة الأزمات العميقة في مجتمعنا بمعزل عن التوجهات الدينية التي تتداخل فيها أبعاد طائفية ومذهبية، فالولاءات الدينية المختلفة تضعف اللحمة المجتمعية، والانتماء الوطني، وتستبدلهما بهويات فرعية وفقًا لمضامين ضيقة، تساعد على التخندق في بؤر طائفية منكفئة، أو أخرى تتجاوز مسألة الانتماء لوطن أو مجتمع، إلى فضاء أممي، يخدم أجندات مشبوهة.

هذه الأزمات تغذيها الجماعات المتطرفة، التي تنحاز دومًا لانتماءاتها الفكرية والأيديولوجية حتى لو كانت على حساب الوطن، وتأخذ معها كل متعاطف أو ميال لخطابها، وهذا الخطاب الذي تتبناه هذه الجماعات والحركات الدينية السياسية يعد أحد أهم أسباب التطرف، إذ تسعى إلى احتكار الحديث باسم الدين، وتوظيفه لخدمة مصالحها، وأغراضها، من خلال تضمين خطابها مفردات تحظى بقبول واسع لدى الناس، كإحياء الخلافة الإسلامية، وإقامة نظام الحكم الإسلامي، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وغربة الدين، وفضائل آخر الزمان، ونظرية القبض على الجمر، وما شابه ذلك.

لقد دفع هذا المفهوم الضيق والغامض للهوية الدينية – من جانب هذه الجماعات – البعض إلى وصفها بـالهوية القاتلة، ليس فقط لأنها تسعى إلى اختزال الهوية في انتماء واحد يقوم على المذهبية والتعصب، ثم يتطور إلى العنف والقتل، وإنما أيضًا لأن هذا المفهوم للهوية الدينية يتجاوز الدولة الوطنية، ولا يعترف بها لصالح ولاءات أكثر اتساعًا من الناحية الجغرافية، فـدولة الخلافة، على سبيل المثال، تمثل عاملًا مشتركًا يجمع حركات الإسلام السياسي والجهادي، وهذا العامل يقوم على مفهوم التمدد الجغرافي ولا يعترف بالحدود الوطنية، مما يجعل عملية الدخول في صراعات وحروب أمر لا مناص منه لدى هذه الحركات.

هذا المفهوم، وغيره من المفاهيم استطاع التسلل من خلال الوظائف الدينية الرسمية، إما بصورة صلبة مباشرة، أو بصورة ناعمة ومساندة تعزز مفاهيم محيطة بالمفهوم الأصيل وتمهد له، مثل مفهوم بيعة المتغلب، ومفهوم عودة الخلافة في آخر الزمان.

ومن المفاهيم المخاتلة والمتسللة إلى خطابنا الديني، مفهوم المتاجرة بالدين، والذي تحول من تجارة رابحة مع الله، إلى تجارة رابحة فقط، وهذه التجارة تربح كلما زاد التشدد والتزمت، وكلما أظلم العقل، واسودت الروح من ناحية نظرتها للحياة. وأكثر ما رسخ هذه الإشكالية هي الوظائف الدينية، التي يتعاظم ربحها والذي يوصف بأنه اختياري، وأنه مكافأة وليس راتبًا، وأنه بحسب تقديرك، أو ادفع ما تجود به نفسك، أو إن وجدت فجد وإن لم تجد فيسر الله رزقك، وهم بهذا التصرف الخبيث يُلجِئون المتعب من الناس إلى دفع أضعاف السعر الذي قرروه لسلعهم الدينية. في هذه اللحظة الفارقة ينتقل الدين من معزز أخلاقي وقيمي، ومكثف لمنظومة الفضيلة، إلى مجموعة سلع وبضائع وصفقات ومعاوضات مادية بحتة، وهذا ما تسوقه السلفية المعاصرة التي ركبها وروَّج لها تيار الإسلام السياسي، الذين قالوا بمسألة، التوحيد أولًا، والحاكمية، وفقه الواقع، وهذا ليس خلطًا للأوراق، فالمدقق سيرى خيوط الاتصال الدقيقة بين مدعي الزور السلفي وبين التيار التكفيري السياسي.

إن من أهم أصول ونظريات السلفية القديمة والتي انطلقت كنظرية، بدأت بالتبلور بعد فتنة خلق القرآن، على يد أحمد بن حنبل –رحمه الله–، هي نظرية تحرير الإنسان من أي ارتباط بغير الله، وتحريره من أي واسطة تحول بينه وبين مباشرة التوجه إلى الله، ولكن هذه النظرية انقلبت بصورة خفية مع السلفية المعاصرة، إلى أداة لقمع الإنسان وقهره وتركيعه وإزهاق روحه بالتكفير والتبديع والتفسيق، ناهيك عن استغلال الإنسان والضرب على أوتار مخاوفه وأشواق روحه، بالرقية وأحجبة السحر والعين، ومن هنا يجب ألا يغيب عنا أن الدين لا يقتصر على الدِّين الحق، إنما يتعداه لكل ما دان به البشر، أو حرفوه عن الدين الأصيل، ولذلك قال الله تعالى عن مشركي قريش: (لكم دينكم وليَ دين)، فسمىّ معتقدات قريشٍ دينًا، ولهذا يقول إيميل دوركايهم في كتابه «الأشكال الأولية للحياة الدينية»: (الدين مجموعة متساندة من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقَّدسة، التي تضم أتباعها في وحدةٍ معنويةٍ تسمَّى الملة)، فالدين له بنيةٌ موحدةٌ، تقوم على عدد من العناصر التي تمكنه من أداء الوظائف التي تلَبّي حاجات البشر، هذه العناصر يعلوها ويطالها الزيف والتحريف والتغيير بمرور الزمن، ويطالها التغيير بحسب الفهم البشري الذي يروم التربح بالدين، وهذه العناصر هي: المعتقد، والمرجع أو الدستور أو الكتاب، والعبادات: وهي الحالة التطبيقية للمعتقد، والمؤسسة الدينية (المرجعية): المتكفلة بشرح المعتقدات والمقدسات للجماعة والأفراد، وهذه العناصر، هي ما يحدد وظائف الدين في حالته الشمولية، والتي يمكن تلخيصها في: الوظيفة التّفسيرية والتّلقينية، والوظيفة التّطمينية –أي تطمين الأتباع على مصيرهم بعد الموت–، والوظيفة التّأديبية، والوظيفة التّشريعية. والدين الذي يخلو من هذه الوظائف –بغض النظر عن صوابها أو عدولها عن الصواب وزيفها– يضع أتباعه في حالة عدمية يفقدون فيها المعنى والإحساس بالذات، ويفقدون تمييز الفواصل والحواجز بين الأنا والآخر، وهنا يقعون فريسة لمشاكل نفسية واجتماعية خطيرة تعصفُ بهم، وهنا بالتحديد يبرز دور التربح بالدين الذي تسهم الوظيفة الدينية في تمريره وبشكل رسمي غالبًا.

إن تنظيم الوظائف الدينية الرسمية: كوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووظائف الوعظ، والوظائف المتعلقة بالمساجد والجوامع، ووظائف الدعاة وتوعية الجاليات، وغيرها من الوظائف الدينية التي تمسك بزمام الرأي والفعل الفقهي في المجتمع سيكون له فوائد أهمها: تبديل الوضع الفقهي الراهن، والمعيق للتقدم الحضاري، وإمكانية التعاطي مع الآخر بحرية فكرية ونفسية منزوعة الأدلجة، وإلغاء تام لمشروعية احتكار فهم الدين، أو الوقوف سدًا منيعًا أمام أي محاولة تطرح قراءة مغايرة للقراءة السائدة، والفهم السائد.

أخيرًا، أشدد على أهمية حصر جميع الوظائف الدينية وجمعها في إمام المسجد ومؤذنه، وأعني بتلك الوظائف: الخطابة والوعظ والدعوة والحسبة، وغيرها ويوضع لها سلم وظيفي كمهنة رسمية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن يتم وضع معيار واضح ودقيق وصارم لبناء المساجد والجوامع، وما التعداد المناسب لبناء أحدهما؟ وما المسافة مع التعداد السكني بين كل مسجد ومسجد وبين كل جامع وآخر؟ وللحديث بقية.