وقع بين يدي كتيب صغير، عبارة عن مجموعة من القصائد المختارة للشاعر العراقي بدر شاكر السياب، أحد رواد ما يعرف بالشعر الحداثي في العالم العربي، اختارها وقدم لها أدونيس، بمعنى أنه انتقى القصائد لجودتها وبناء على ذائقته، لا أخفيكم سرا أنني لم أفهم أي قصيدة من القصائد، أقول هذا الاعتراف بكل شجاعة وتواضع، فجل القصائد إن لم تكن كلها، مبهمة وغير واضحة المغزى، تتضمن كثيرا من التعتيم والإبهام، ومهما كررت القراءة ستجد نفسك تزداد يقينا بأن القصيدة بلا معنى، وليت أدونيس نفسه اعترف بهذه الحقيقة في مقدمة الكتاب.

القصائد تزخر بالموروثات الأوروبية واليونانية المضمنة بين السطور، سواء موروثات لرموز دينية أو ثقافية، والسياب هنا تحرر من القديم العربي، وأقحم نفسه في القديم الغربي، فلا يوجد بين سطور القصائد ما يوحي بأنها تعبر عن روح المدينة العربية المعاصرة -المدينة العراقية تحديدا- فكل القصائد لا يمكن تصنيفها بأنها ضمن «شعر الحداثة» بقدر ما هي شعر مترجم أو مستعرب، وتشعر أنه شعر أعجمي رغم أنه مكتوب بالعربية الفصحى، لذا يمكن القول بأن تحديث القصيدة في العالم العربي هو أساس تغريب لها، وهو جزء لا يتجزأ من تغريب لأنماط الحياة المختلفة في الثقافات التي لا تنتمي للغرب، فالحداثة أصبحت من هذا المنظور وعي العالم الغربي بغربيته وكونيته، وجاءت القصيدة الحداثية في العالم العربي لتكريس هذه الكونية.

إن علاقة المثقف العربي اليوم بالغرب علاقة مرضية، ولدتها فضلا عن مركب النقص المتعمق في الروح العربية المعاصرة، أشكال متعددة من الأعراض الجانبية، وأهمها رد الفعل العكسي تجاه الذات، أو خلق حالة شبيهة بالشعوبية التي ازدهرت في العصر العباسي مع اختلاف الدوافع، فالمثقف العربي اليوم عندما يجلد ذاته ويحتقر تاريخه ويتبرأ من ثقافته وموروثاته، ويلصق نفسه بموروثات الآخرين، فإنه يمارس نوعا من الشعوبية المعاصرة، في كتابه «كنت شيوعيا» يقول بدر شاكر السياب: «ورحنا نضرب على كل وتر نخرج نغمته موافقة لما نريد، بثثنا بين الطلاب الأكراد أن القوميين يكرهون الأكراد وقوميتهم، بينما نعتبرهم نحن إخوانا لنا، بل إننا أخذنا نسب العرب والقومية العربية أمامهم، بل رحنا ننتقص من العرب، ونزعم أن التاريخ العربي ما هو إلا مجموعة من المذابح والمجازر، وأن القواد العرب وزعماؤهم العظام ما هم إلا إقطاعيون حقراء، جلادون إلى غير ذلك».

يتكلم السياب هنا بلسان الشيوعي التائب، ولكن هذا لا يمنع من تسليط الضوء على النزعة الشعوبية، التي تحدث عنها بإسهاب في سيرته الذاتية، التي ألقت بظلالها على توجهاته الشعرية، وهو يبرر لنفسه أن اعتناقه للعقيدة الشيوعية لم يكن خيانة للوطن، بقدر ما هو تعاطف مع الفقراء والمظلومين، فهل تلك النزعة الشعوبية الواضحة في حديث السياب لها دور في توجهاته الفكرية والأدبية، وهل الشعر الحداثي في حقيقته ليس إلا تمظهرا للنزعة الشعوبية عند الشاعر، تجعله يتبرأ من موروثه العربي والإسلامي، ويعتنق موروثات دينية وثقافية ذات أصول أجنبية؟