أتذكر ذات يوم بينما كنت في فترة التدريب في طب الأطفال، أن مريضة وتحديداً في قسم أمراض الدم، مصابة بنزف وراثي، وتنوم بين كل فترة و أخرى إذا ما تعرضت لسقوط أو جرح، لتلقي العلاج والتقليل من النزف، بعدما كانت تنوم على فترات متباعدة، أصبحت تحتاج تنويما كل شهر وصارت تحتاج لنقل دم أيضاً، فعرفت بعد ذلك من الاستشارية المشرفة على علاجها أن هذا التدهور ناتج عن بلوغها، وحدوث الطمث شهرياً، لذلك يكون النزف أكثر فينقص دمها إلى مرحلة خطيرة، تحتاج معه لنقل دم شهرياً، لذلك كان من الخيارات المطروحة إزالة الرحم لهذه الفتاة للحفاظ على حياتها!!

ظننت أن الطب توقف، وأن العلم لن يتقدم، الفتاة لم يتجاوز عمرها 12 عاماً، لا بد أن هناك علاجا أفضل، وخياراً يحفظ لها حق الخصوبة والأمومة، ربما غداً يحمل علاجاً لها، عندها لا نستطيع استعادة الرحم، فغالباً ما يكون قد دفن ضمن النفايات الطبية. الحمدلله أن الوالدين رفضا هذا الاقتراح، وعولجت بإحدى التقنيات الحديثة في أكبر المراكز بعد سنوات من المعاناة، وتعافت وتزوجت وأنجبت. الوالدان اختارا الأفضل لابنتهما، رغم وجود المخاطرة، ولكنهما تمسكا بالأمل وبمقولة (الطب يتقدم).

بينما في حالات أخرى الوالدان هما من يطلبان إزالة رحم ابنتهما، حفاظاً على نظافتها الشخصية، وخوفاً من العار في أكثر الحالات، وهذا يحدث مع حالات الأمراض العقلية والنفسية. لم أكن لأعرف أن هذا ممكن حتى سألتني أم فتاة لديها اضطراب ذهني، عما سيحدث بعد إزالة الرحم لابنتها! فسألتها ولماذا يُزال! كان هاجسها، كيف تتصرف الفتاة عند حدوث الطمث، وكيف تحافظ على نظافتها الشخصية، كانت خائفة من أنها ربما لا تجيد ذلك! وحتماً هذا سيوقعها في حرج.

قرأت عن الأمر وهل هو بالفعل متداول كحلٍ لمثل هذه الحالات، بالذات أن استشاري نساء وولادة هو من اقترح على الأم ذلك، قلت ربما هذا شيء جديد في طب النساء، وأنا من تخصصٍ مختلف، فوجدتُ أن الولايات المتحدة كانت أول بلد شجع التعقيم وأقره في حالات الأمراض العقلية والنفسية، وذلك لتحسين النسل (eugenics)، واعتبروا استئصال الرحم وسيلة مقبولة في الفتيات اللاتي لديهن اعتلالات عقلية أو نفسية شديدة، للحفاظ على نظافتهن الشخصية ولمنع الحمل إذا ما تعرضنّ للاغتصاب، بينما اختار أهالي الفتيات اللاتي لديهن إصابات عقلية ونفسية خفيفة وسيلة ربط المبيضين فقط كطريقة لمنع الحمل وليس لمنع حدوث الطمث. وحسب توصيات الكلية الأمريكية لأمراض النساء والولادة الحالية، فإن دواعي استئصال الرحم واستئصال بطانة الرحم لدى الفتيات ذوات الإعاقة الذهنية هي نفسها دواعي غيرهنّ من النساء، أي دواعي طبية بحتة وليس نزولاً عند طلب الوالدين. في ألمانيا تم تعقيم كثير من الفتيات بحجة تحسين النسل، حيث تم تعقيم اللاتي لديهن أمراض عصبية كالصرع أو المعاقات ذهنياً وكذلك مدمنات الكحول. الآن لم تعد هذه الفكرة مرحب بها، بل أصبح العلاج الهرموني والسلوكي هو الخيار الأفضل، لا تتعجبوا، إذا ما قلت إن في مجتمعاتنا العربية هناك بالفعل فتيات يتمّ استئصال أرحامهن لإعاقة ذهنية لديهنّ، دون دواع طبية إنما نزولاً عند رغبة الوالدين، بينما الطبيب يسجل بداع طبي مُلح كنزف لا يمكن السيطرة عليه، فتعاني الفتيات من تبعات هذا. من الممكن أن تموت من جراء العملية، أو تُصابُ بالاكتئاب، علينا أن نحميهنّ لا أن نؤذيهنّ، وهذه الممارسة هي ضد حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة، بغض النظر عن الهدف من التعقيم سواء من أجل الحفاظ على نظافتهن الشخصية، أو خوفاً من عار لا يد لهنّ فيه، نحن نعرضها لخطر أكبر وننتهك حقاً من حقوق الإنسان، الإعاقة الذهنية لا تبيح التعدي على الحقوق.