يتزايد الحديث هذه الأيام بتركيز ملحوظ عن قرب التوصل لاتفاق جديد بين مجموعة 5+1 من جانب، وإيران من جانب آخر، يتناول برنامج إيران النووي إثر انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب من الاتفاق الذي أبرمه سلفه باراك أوباما عام 2015. وتجيء التطورات الأخيرة عقب جولة ماراثونية من المفاوضات بين واشنطن وطهران، بتسهيل من المجموعة الأوروبية التي قدمت «صيغة نهائية» للاتفاق الجديد رد عليه الطرفان بالعديد من التعديلات التي وصفت بأنها «معقولة»، فيما أكدت الولايات المتحدة أن إيران قدمت تنازلات أهمها طلب رفع اسم منظمة الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية.

وبعيدا عن حسابات الربح والخسارة، ورغم محاولات الترويج للاتفاق الجديد، إلا أن عدم إشراك دول المنطقة في المفاوضات بشكل مباشر يبقى نقطة ستلقي بظلالها دون شك، لأنها المعنية في الأساس بتقويم سلوك النظام الإيراني، وتتأثر مباشرة بتجاوزات طهران، ويهمها أن تراعى مصالحها وأمنها واستقرارها. حيث كان من المآخذ الرئيسية على الاتفاق السابق أنه لم يأخذ ذلك في الحسبان، لذلك جاء منقوصا وهو ما تسبب في انهياره.

ولأن الصيغة المذكورة للاتفاق لم تنشر بعد، فإنه ربما يكون من السابق لأوانه الحديث عن بقية التفاصيل، وبغض النظر عن الاعتبارات السياسية ومواقف الدول المعنية بالبرنامج المثير للجدل، إلا أن هناك ثوابت يمكن الحديث عنها، بل إن التطرق لها قبل التوقيع النهائي يبقى أمرا في غاية الأهمية.

بداية فإن من الضروري أن يحتوي الاتفاق الجديد على آلية واضحة للعقاب في حال تنصل النظام الإيراني عن تنفيذ ما يليه، أو حاول كعادته اللجوء إلى المراوغة والمناورة وغير ذلك من الأساليب التي اعتاد عليها، فالتجارب السابقة أثبتت أن طهران تسعى دوما إلى التهرب ومحاولة شراء الوقت والبحث عن وسيلة لإنعاش اقتصادها الذي يمر بأسوأ أوقاته نتيجة للعقوبات الأمريكية والدولية. وهذا الوضع الاقتصادي الصعب ربما يدفع النظام الإيراني للتظاهر بتقديم التنازلات حتى يتمكن من استعادة ولو جزء من ملياراته المجمدة بالخارج، وبعد ذلك يعود إلى نفس تصرفاته السابقة.

ونظرة سريعة لحزمة القوانين الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي خلال الفترة السابقة – أي منذ بداية ظهور البرنامج النووي الإيراني – يتضح بجلاء حجم المعاناة التي تكبدها المجتمع الدولي لإثناء طهران عن المضي في هذا الطريق، فمجموعة القرارات التي صدرت في هذا الشأن بلغت تسعة قرارات، هي على الترتيب:

القرار رقم (1696) الذي صدر في 31 يوليو 2006، والقرار (1737) بتاريخ 23 ديسمبر 2006، والقرار (1747) بتاريخ 24 مارس 2007، والقرار (1803) في 3 مارس 2008 الذي اتخذ بالإجماع وجاء بموجب المادة 41 من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بعد ذلك صدر القرار رقم (1835) بتاريخ 27 سبتمبر 2008، وأعقبه قرار المجلس رقم (1929) في التاسع من يونيو 2010، ثم القرار رقم (1984) الصادر بتاريخ 9 يونيو 2011، وقرار المجلس رقم (2049)، المتخذ بالإجماع في 7 يونيو 2012، والقرار رقم (2231)، الصادر بالإجماع أيضا في 20 يوليو 2015.

كل تلك القرارات صدرت عن مجلس الأمن الدولي ضد طهران بسبب برنامجها النووي المشبوه، إضافة إلى قرارات أخرى وعقوبات فرضتها الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية بصورة منفردة، وجميعها تطالبها بالتوقف والامتناع عن تخصيب اليورانيوم، ووقف أي أبحاث أو تطوير يتعلق بأجهزة الطرد المركزي، والامتثال لقرارات الشرعية الدولية، وترتب على تلك القرارات فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة في التاريخ، لكن النظام الإيراني رغم ذلك تحدى العالم بأسره واختار السير في طريق مليء بالأشواك.

ومما يؤسف له أن مشاكل طهران مع جميع دول العالم لم تقتصر على البرنامج النووي فقط، بل إدمان النظام الإيراني التدخل في شؤون دول الجوار، وافتعل العديد من المشكلات، وتسبب في كوارث لا حصر لها في العراق ولبنان وسورية واليمن، كل ذلك سعيا وراء تصدير مبادئه وثورته العقائدية المزعومة والمرفوضة لإضعاف دول المنطقة ومن ثم السيطرة عليها والتهام مواردها، فلم يتورع عن تجييش الميليشيات وتصدير أسلحة الموت والدمار، بعد أن رفع شعارات طائفية بغيضة عفا عليها الزمن وتجاوزتها متطلبات الحياة العصرية.

لذلك فإن تلك التجارب القاسية التي عاشها المجتمع الدولي والجهود التي بذلها لإعادة النظام المارق إلى طريق الشرعية الدولية ينبغي أخذها في الاعتبار والنظر إليها بجدية، والعمل على عدم تكرارها وذلك بوضع بنود محددة تشتمل على تفكيك البرنامج النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية، ووقف التدخل في شؤون دول الجوار، وكف اليد عن تصدير الأزمات والقلاقل، والتقيد بالمعاهدات الدولية والمواثيق المرعية التي تنظم العلاقات الدبلوماسية بين الدول.

إن أفلحت الولايات المتحدة والدول الأوروبية في وضع بنود واضحة واتفاق ملزم فإنها تكون قد وضعت حدا للسبب الرئيسي في كافة أزمات المنطقة والعالم أجمع، ووضعت لبنة رئيسة في طريق الاستقرار والنماء، أما إذا كان الدافع من إبرام الاتفاق هو تحقيق مكاسب سياسية ضيقة ومنافع اقتصادية ومحاولة تعويض النقص في إمدادات الطاقة بسبب الأزمة الأوكرانية فإن العالم لن يعرف طريق الاستقرار، وسيعود النظام الإيراني بنفس ألاعيبه السابقة، لكنه سيكون هذه المرة أكثر شراسة بعد أن يستفيد من مئات المليارات من الدولارات المجمدة في الخارج، وحينها فإن ذاكرة التاريخ لن ترحم كافة من تسببوا في ذلك.