أصدرَ سركون بولص ديوانًا -في منتصفِ الثمانينيات- سماهُ (الوصول إلى مدينة أين)، وبعد وفاته في 2007 كَتَب درويشُ نصَّه (الطريق إلى أين)، وأهداه لسركون.

وبين الوصولِ والطريقِ، يتحدّد سؤال الأصلِ، حيث سركون سَلَّمَ خطامَ ناقته لميتافيزيقا الوصول، وأمَّا درويشُ فطرحَ مسألةَ الأصلِ، ليُشتِّتَ الوصولَ لشيءٍ ما.

ولهذا فحين نعود إلى زمن كتابة (الوصول إلى مدينة أين)؛ نجدُ أنَّ ما يزامنها عند درويش، نَصَّ (ذاكرة للنسيان) وتحديدًا حين تَغَزّل بالطريقِ إلى البيتِ وليس بالبيت نفسه، على سبيل أنَّ البحث عن غاية نهائية فإنه -في الحقيقة الآنية- لا يبحث عن شيءٍ؛ لأنَّ الطريقَ هو الغاية.

يقول درويشُ: «عمَّ كنتُ أبحث؟ عن الخُطى أم عن الولد؟ أم عن أهلٍ قطعوا البرية الوعرة؛ ليصلوا إلى ما لم يجدوا، كما لم يجد كفافيس في إيثاكاه».

وسياقُه لما نزلَ إلى بيروت في بدايةِ السبعينيات تذكَّر أولَ هجرةٍ له وهو في السادسة من العمر، عندما تهجّر مع عائلته، إلى بيروت؛ إذ يقول: «لما ذهبتُ إلى بيروت كان أولُ شيءٍ أفعله هو أنني أوقفت سيارة تاكسي، وقلت للسائق: خذني إلى الدامور. كنتُ قادمًا من القاهرة، وكنتُ أفتّش عن خطى صغيرةٍ لولدٍ مشى خطى لا تليق بعمره، خطى أكبر منه، ومن قدميه» الخطى -هنا- هي التي تدلنا على الأشياء، ولهذا نجد الدليلة يتتبعون الخطى لمعرفة الطريق، أو حتى متتبعي الأثر ليجدوا ما وراء الشيء.

أما الولد فلا، إذ هو يدل على صورةٍ في الذاكرة؛ نَحِنّ إليها دون تحديد الأسباب، ودون أن يكون لها خَط تاريخي واضح. فيكون الحلّ هو أنَّ الطريقَ نفسَه هو الرحلة وهو الغاية، إذ النفس لديها توق؛ لإيجاد شيءٍ ما، كرمزية (الولد) هنا، في الحنين إلى الماضي دون الرغبة في الرجوع إليه مما يولّد تناقضًا؛ بعلامةِ أنَّ أهلَ درويش مشوا خُطى كثيرةٍ، ووصلوا إلى بيروت ووجدوا شيئا لكن هل هذا الشيء موازٍ لما في النفس ورغباته؟.

وبتأمل قصيدة (إيثاكا) لكفافيس، سنجد هذه المعاني الفلسفية؛ حيث إيثاكا موطن أوديسيوس، الذي ترك بلده؛ كي يكونَ من قادةِ حربِ طروادة. ويشيرُ إلى أنَّ الخوفَ في الطريقِ مُتعلقٌ بالأفكارِ حول الأشياء، في تقاطع مع المثل: «مَن خافَ مِنَ الشيءِ وجده».

ومن مَسّت روحَه دهشةُ الطريقِ، لن يَضيقَ منه، وكانَ كفافيس مهجوسًا بالفلسفةِ الهلينستية، وهي تحيلُ على مدارس ومنها الرواقية، واسم الرواقيين من رَواقِ الخيمة، لكنَّ ثمة أمرًا لافتًا، حين يُقال للمتضايق: (روّق)، فربما أنَّ الإنسانَ ما لم يتصالح مع الطريق الذي يسير به فإنه سيحدث له ألمًا. والرواقيون اهتموا بفكرةِ الألم.

أما درويش فإنه يطرح الطريقَ -مرة أخرى- في أواخر حياته؛ كردّ فعلٍ للتاريخ التكويني التطوري، وذلك لأنَّ التاريخ التكويني التطوري يَعُدّ أنَّ متابعةَ التطور تُمكِّننا من الوقوف على المحددات، وهذا ما أَوصَل له قولُ سركون بولص (الوصول إلى مدينة أين). وهنا تحضر الجينيالوجيا؛ لتحل محل الأصل في معناه الميتافيزيقي، أي الأصل الذي يُوضَع قبل الجسد/العالم/الزمن.

ومن ثم فإنَّ الجينيالوجيا تُلغي جوهر الأشياء، وهذا ما جعل درويش يشير إلى سركون بولص بعد أن مات، ليُعيد سؤالَ الطريق، ولكن هذه المرة ليلغي طريقه هو، أي الطريق الذي انبنى على غايات تكوينية تطورية، ألغت متعةَ الطريقِ نفسِه، ولهذا لجأ إلى الجينيالوجيا؛ لتأسيسِ أصلٍ مُضَادٍ، فنجده يقول: «...وآثار موتى رأوا موتهم واقفًا في الطريق، فألقوا عليه التحية؛ قال: إلى أين؟ قالوا: إلى أين!، نمشي كأنا سوانا. كأنَّ هناك/هنا بين بين، كأنَّ الطريق هو الهدف اللانهائي، لكن إلى أين نمضي، ومن أين نحن إذن؟ نحن سكان هذا الطريق الطويل إلى هدفٍ وحيد يحمل اسما وحيدا: إلى أين».

الهدف الوحيد ارتبط بمفهوم (الأين) ودلالاته. أي أنَّ لفظة (أين) مُشتّتةٌ للنظرِ سواءً لقائلها، أو لمن قيلت له، وهي تجمع أدوات الاستفهام الثلاث (كيف، مَن، متى)؛ ومن ثم فإنَّ العودة إلى الوراء/وراء طريقنا التاريخي، تسمح لنا بتبيّن الاختلافات والوقوف على التراتبات. أي أنَّ الطريقَ هو التاريخُ نفسُه، وليس مُوصلًا لغايةٍ بعينها صادرة عن أصل.

ولهذا يكون الطريقُ نفسُه هو الذي يُشكِّلُ الماهيات شيئًا فشيئًا، انطلاقًا من الاختلافات والتراتبيات وهي أشياء غريبة عن ذاتِ السائرِ في الطريقِ، ومن هنا فإنَّ ما نُلاقيه في أولِ الطريقِ ليس حقيقةَ الشيءِ، لهذا كانت لفظة (أين) معبرة عن التبعثر والتشتت الذي تريده الجينيالوجيا لتأسيس أصلٍ مضاد للأصل الميتافيزيقي.

ومن هنا فإنَّ الوصول الذي رآه سركون بولص يُعبّر عن تأويلٍ محدد؛ ليضفي عليه صفةَ الغاية/الهدف، فنكون أمام معنى للتاريخ واتجاهاته الواضحة التي تُلغي كلَّ مفاهيم التاريخ ما عدا أن يكون فروعًا لذلك الأصل/الغاية.

أما (الطريق إلى أين) فليس بحثًا عن معنى أول، وإنما غربلة لكلِّ أوليّة وأسبقيّة أُعطِيت لمعنى على آخر.

ولهذا فإنَّ ما نراه في الطريقِ ليست إلا فروعًا بعد أن ظُنَّ أنها أصول، وما هي إلا انطباق لحركةِ الطريقِ التي تُظهِر الأشياءَ في الواقعِ عندما تعطيها معنى.

إلا أنَّ حوارية درويش مع سركون، توقفت عند الإشاراتِ، ولم تُحولها إلى أداةٍ تؤول وتُشخّص، وهنا يأتي دور نقاد الطريق إلى أين، فثمة جينيالوجيا سيميولوجية تؤول الدلائل بناءً على القوى المختبئة وراءها. وثمة نموذج يُؤول القوى بصفتها كيفيات فاعلة أو منفعلة، وفي قلبِ الطريق فإنَّ الأعراضَ والنماذجَ تُحال إلى أصول؛ وذلك لتأسيس تاريخ التراتبات القيمية وتحديد كيفية ظهورها، من أجل رصد استراتيجيات الهيمنة والتسلط، الثاوية خلفَ الإرادة.

وأما تشاؤم درويش، فلأنَّ الطريق ما هو إلا لعبة يحركها الصراع اللا واعي، ولم نعد نفهم التاريخ كمنطقٍ كلي، له غاية يسير نحوها، وإنما هو مجموعة من القواعد العشوائية، بواسطتها تُفضح العمليات التي وفقها تُخلق المُثل العُليا.