الفلاسفة اليونانيون يقولون إن القلب محل الذاكرة، والطبيب اللاتيني كلاوديوس جاليينوس اكتشف بعد ذلك أن محلها الدماغ.
القرآن ربط بين القلب والذاكرة والعقل والبصيرة، حينما نبصر، فبالقلب نبصر، وحينما نعقل، نعقل به، وحينما نحفظ، بقلوبنا نحفظ، حينما نرى بأعيننا، يصدق القلب ذلك أو يكذبه، (ما كذَب الفُؤاد ما رأى). وحينما نتذكر، فبقلوبنا أيضاً نتذكر، (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب).
العجيب في الأمر أنه لا قيمة للقلب، إذا ما توقف الدماغ عن العمل، وهذا ما نسميه الموت الدماغي، أما توقف القلب فهو الموت الفعلي، وهذا هو السبب الأكثر كتابة في شهادات الوفاة في كل أنحاء العالم، توقف في القلب وهبوط حاد في الدورة الدموية والتنفسية.
منذ زمن ليس ببعيد شاهدت عملاً تلفزيونياً، عن قصة قاتلة مأجورة، انتحرت بعد اغتيالها أحدهم، وفي الوقت ذاته وقع حادث سير لسيدة أخرى وتوفيت دماغياً، وكانت تمتلك كرتاً كمتبرع بالأعضاء بعد وفاتها، وأتت نتيجة اختبار التوافق النسيجي متطابقة، وتمت عملية زراعة القلب، وخلال فترة استشفائها بدأت ترى أحلامًا غريبة، ووجوهاً لا تعرفها وأفكاراً لم تعتد عليها، الأمر الذي قادها إلى اليابان حيث تنتمي المتبرعة، للبحث عن أشخاص أحلامها، قلبٌ قطع المسافات من أجل الذكريات الدافئة التي سكنت فيه، القصة أثارت لديّ فضولاً لمعرفة إذا ما كانت هذه حقيقة علمية أم مجرد خيال كاتب!
فوجدتُ أن هناك - بالفعل - دراسات أثبتت أن للخلايا ذاكرة، هي ذاكرة لا جينية وذاكرة الحمض النووي، وأظهرت الدراسات أن المرضى الذين يخضعون لزراعة قلب آخرين في صدورهم، تتغير هواياتهم بعد العملية، وما يفضلونه من المهن والطعام والموسيقى، وأن المرضى أنفسهم يكون لديهم تصور لحدوث ذلك قبل إجراء العملية، مجرد استبيان يوضع بين يدي المريض قبل العملية، يرى بعض الأطباء أن استخدام الأدوية المحبطة للمناعة يقلل من حدة هذه الذاكرة القلبية، كتقليل فرص حدوث رفض النسيج ذاته.
هناك قصص عديدة لأشخاص حقيقيين خضعوا لزراعة قلب من أشخاص متوفين دماغياً، تبرع بول الذي كان عمره 18عاماً ومتوفى دماغياً بقلبه لدانييلا، فتاة بعمره، كانت مصابة بفشل في عضلة القلب، إثر التهاب أصابه.
كان بول يكتب الشعر والأغاني ويتقن العزف، وبعد زراعة قلبه بين أضلاع دانييلا، بدأت تحب الموسيقى، عرضوا عليها صوراً عديدة، لاختبار إذا ما سوف تتعرف على وجه المتبرع، فعرفته من بين كل الصور، وحينما قرأوا عليها بعض الأغاني التي كتبها، كانت تكمل بقيتها وكأنها هي من كتبها، دون سابق معرفة، فتوصل طبيبها إلى أن ذاكرة بول القلبية قد انتقلت لدانييلا وأثرت في شخصيتها، أصبحت إنساناً أفضل مرهف المشاعر بفضل قلب بول.
كذلك حدث لقلب جيري البالغ من العمر سنة ونصف، والذي توفي بحادث غرق، فزُرع
في صدر كارتر البالغ من العمر عاماً، وكان مصاباً بتشوه خلقي في القلب، الأطفال عادة يتعرفون على الغرباء في هذا العمر وينفرون منهم، ولكن كارتر دس أنفه في صدر والدة جيري حينما رأها، القلب الذي في صدره تعرف عليها، واستعاد رائحتها فضمها.
قصص حقيقية، رواها أطباء هؤلاء المرضى وذووهم، داهمتني الكثير من الأسئلة، بعدما مررت عليها، سألت نفسي إنّ كان لدينا قصص مشابهة، هل هناك دراسات تدرس التغيرات الشخصية التي تطرأ على المريض بعد منحه قلب شخص آخر!
هل سيكون من ضمن دراسة التوافق بين المتبرع والمُتبرع له، التوافق الشخصي، هل استخدام العلاج الجيني لأمراض القلب سيقلل من الاحتياج لزراعة القلب، وعندها تبقى الذاكرة القلبية ملكية حصرية لصاحبها.