من أكثر المفاهيم شيوعا في الأوساط المهتمة بالفلسفة الغربية، ما يعرف بالشك الديكارتي (الكوجيتو) الذي يتلخص في مقولته الشهيرة «أنا أشك إذن موجود» أو «أنا أفكر إذن موجود».

وتعامل هذه المقولة أو منهج الشك عند ديكارت بوصفه ذروة سنام العقلانية. ويعامل ديكارت بفضل منهجه ضمن رجالات العقلانية ومدشنا حقيقيا للحداثة الغربية، وأصبح منهجه يعامل كأداة من أدوات التفكير الناقد، ويقحم بشكل غير مباشر في مناهج الأطفال بوصفه طريقة تربوية ناجعة من طرائق التدريس المساعدة على التفكير الناقد.

قد يطوف بالذهن سؤال بديهي: ما طبيعة الشك عند ديكارت وعند فلاسفة اليونان قبل قبله؟ هل هناك عقيدة دينية أو خرافة قديمة متعلقة بمنهج الشك ولا تنفصل عنه؟

إن مذهب الشك بشكل عام ينطلق من عقيدة دينية أو لنقل خرافة، تشكك في ما تأتي به الحواس من العلم، بمعنى أن حواس الإنسان وفق هذه العقيدة عاجزة عن الوصول لأي حقيقة، لأن الشياطين تلبس على الإنسان وحواسه وتجعله يعتقد بالأوهام التي لا حقيقة لها.

يقول برتراند رسل متحدثا عن المتشككين في العصر اليوناني: «كان المتشككون القدامى يؤدون كل شعائر الوثنية، بل كانوا أحيانا كهنة لها، وأكد لهم مذهبهم في التشكك أن هذا الضرب من السلوك يستحيل أن يقوم برهان على بطلانه، وكذلك أكد لهم إدراكهم الفطري الذي بقي حيا بعد زوال فلسفتهم بأن ذلك السلوك ملائم للظروف».

نتبين من كلام رسل وهو الضليع بتاريخ الفلسفة الغربية، أن الشك مذهب قديم جدا، يتضمن عقائد دينية قديمة، تشكك في قدرة حواس الإنسان على إعطاء معلومات صحيحة متعلقة بالعالم الطبيعي. وديكارت كان مؤمنا بهذه العقيدة التي تشكك في مصداقية الحواس، فهو يعتقد بوجود شيطان ماكر يمتلك قدرة كلية قادرة على تغيير أساسيات المنطق من خلال تأثيره على حواسنا.

المذهب الديكارتي يقوم أساسا على الاعتقاد بوجود شيطان شرير يتحكم في عقله وحواسه ويزرع كل تصوراته فيهم، يعني هذا الاعتقاد أنه لا يمكن الوثوق بأي شيء يراه الإنسان أو يسمعه أو يشمه أو يلمسه أو يتذوقه، أي أن هذا الشيطان المخادع يجبرنا على الشك في العالم الخارجي كله. أوهم هذا المعتقد ديكارت على الشك في ما إذا كان مستيقظا أو أنه يحلم. وكما هو معروف فإن ديكارت وصل للحالة التي يشك فيها بوجوده لأنه أصبح يشك في حواسه التي يتلبسها الشيطان المخادع.

يصف رسل اعتقاد ديكارت بالشيطان الماكر: «ولكن ربما كان ثمة شيطان شرير، لا يقل خبثا وخداعا عن قوته، يستخدم كل براعته في تضليلي. لو كان ثمة شيطان كهذا، فيمكن أن تكون جميع الأشياء التي أراها محض أوهام يستخدمها شراكا لسذاجتي»... وعلى هذا الأساس يحاول ديكارت إنشاء نظرية في المعرفة تستبعد الحواس والعالم الطبيعي لتفادي الوقوع في شراك الشيطان الماكر مما يكون سببا في قيام حواسك بالإبلاغ عن معلومات خاطئة ووهمية. ومن هنا كان التفكير المنفصل عن الحواس طريقه الأوحد للوصول لأي حقيقة، لذلك أطلق مقولته الشهيرة: «أنا أفكر إذن أنا موجود» أي أن إيمان ديكارت بأسبقية الفكر لا يخرج عن كونه عقيدة دينية.

لا يمكن فصل عقيدة الشك عند ديكارت عن الشك بقدرة الحواس البشرية، ودون الشك بالحواس فإن الشك فلسفيا يصبح بلا معنى. فالشك بالحواس المرتبط بالشيطان الماكر يتضمن شيئا من مكونات الإيمان المسيحي عند ديكارت الذي يؤمن بوجود شيطان ماكر يلعب دورا رئيسا في محاولة تضليل بني الإنسان. وفكرة الشيطان موجودة في كل الأديان تقريبا ولكنه في حالة ديكارت شيطان كلي القدرة يمكن أن يضلل حواسنا ويجعل ما تخبر به مثارا للشك. فهل من المنطق خلق علاقة بين الشك الديكارتي والتفكير الناقد؟

في الحقيقة يجب علينا تفعيل التفكير الناقد للوصول للمعنى الباطني للشك الديكارتي الذي يتخفى وراء اللفظ الظاهري. فهناك عقيدة دينية راسخة تكمن وراء الشك عند ديكارت، وتقديم الشك الديكارتي بمعزل عن سياقاته الدينية يعكس جهلا بحقيقة الفكر الديكارتي.