من المصطلحات الشائعة التي ناقشها عبدالوهاب المسيري وأوضح مقدار ما تضمره من تحيز عرقي وثقافي، مصطلح ما يعرف بـ «الحرب العالمية». فمن منظور المسيري أن الحربين العالميتين، الأولى والثانية، لم تكونا حربين عالميتين بالمعنى الدقيق للكلمة، بقدر ما كانت حروبا أوروبية. يقول المسيري: «ويتضح التحيز الغربي الناجم عن التمركز حول الذات في مصطلحين شائعين مثل الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، هاتان الحربان كانتا عالميتين من منظور الإنسان الأوروبي وحسب، الذي كان يظن أن أوروبا هي العالم، أما ما عدا ذلك فأسواق ومستعمرات، فإذا اندلعت نيران الحرب في أوروبا فهذا يعني أنها اندلعت في العالم بأسره».

لعلي أوافق المسيري في فكرته بخصوص التحيز في المصطلحات الأوروبية، فنحن بقية شعوب العالم قد وقعنا في فخ هذه التحيزات وأصبحنا نتعامل مع الحروب بين الدول الأوروبية وكأنها حروب عالمية، دون أن نناقش أو نحلل مثل هذه المفاهيم الشائعة. والحروب العالمية التي عرفناها كانت عسكرية بين الدول الأوروبية ولكن هناك حربًا أقدم من الحرب الأوروبية العسكرية وهي الحرب الثقافية والسياسية الناعمة بين الدول الأوروبية التي كان أحد نتائجها انفصال الكنيسة الإنجليزية عن الكنيسة الرومانية في إيطاليا. فقد كانت حروبا ثقافية شملت غالب الدول الأوروبية، نشأ عن هذه الحروب الثقافية والسياسية الناعمة مصطلحات مثل: التنوير، الحداثة، الإصلاح الديني، العلمانية. وإن أخذت طابعا عنيفا في بعض الأحيان وتحولت إلى أعمال عنف وقتل.

الحرب العالمية الأولى والثانية، ليستا في الحقيقة إلا امتدادا لحروب أوروبية قديمة، فهي تتشكل وتأخذ طابعها الفكري وفقا للظروف الأوروبية، فإن كانت في القرن العشرين حروب بين النازية والستالينية فإنها في القرون السابقة كانت حربا بين الكنائس والفلسفات. ولقد لعب الفلاسفة دورا سياسيا في تلك الحروب، أو بمعنى أدق كانوا أدوات سياسية في حرب أوروبية شاملة رغم أنهم مجرد أدوات ثانوية في تلك المعارك الأوروبية الشاملة.

أفرزت تلك الحروب السياسية الأوروبية ذات الطابع الفكري جملة من الثنائيات؛ الكنيسة والدولة، الفلاسفة ورجال الدين. وكذلك أفرزت العديد من العمليات الانفصالية ولعل أهمها ما يعرف بفصل الكنيسة عن الدولة، وهو في المقام الأول ليس إلا فصلا بين الكنائس الأوروبية، وأشهر تلك العمليات الانفصالية: فصل الكنيسة الإنجليزية والكنيسة الألمانية عن كنيسة روما الكاثوليكية في إيطاليا، وكلنا نعرف حركة الإصلاح الديني لمارتن لوثر. إن حركة مارتن لوثر الإصلاحية كانت عنوانا لحرب سياسية أكبر وأشمل بين دولتي ألمانيا وإيطاليا، هذه الحرب لا يمكن اختزالها في شخص مثل مارتن لوثر أو جعل هدفها الوحيد هو مكافحة صكوك الغفران.

إن الحروب العالمية في مطلع القرن العشرين بين الدول الأوروبية التي كان أبطالها هتلر وستالين وتشرشل وماسوليني، كانت امتدادا لحروب أوروبية قديمة، وما أفرزته من مفاهيم ومصطلحات وأفكار أصبح يعمم على كل شعوب العالم.