عاشت خالتي في مدينة جدة أكثر من أربعين سنة، عشرين سنة منها في إحدى حارات جدة العتيقة (حارة المظلوم)، ومع ذلك ماتت -رحمها الله- ولهجتها الشدوية كما كانت قبل أن تغادر شدا الأعلى. لم يكن في لغتها ما يشير إلى أنها عاشت في مدينة كجدة، وحين كانت تتحدث معي، كنت أنصت إلى (اللكنة) التي يميز بها الجنوبيون بين لهجة قرية وأخرى، ومع ذلك حتى هذه اللكنة لم تتغير.

حين تحدثت مع أحد الأصدقاء عن ملاحظتي هذه، فسرها بـ«بترييف المدينة»، وشرح هذا بأن المدن السعودية تريّفت، أي أنها أصبحت ريفا، وليست مدنا. فالريفيون يهاجرون إلى المدينة، ويجاورون ريفيين يعرفونهم، وهؤلاء يجاورون ريفيين آخرين. وكل ريف يبني جزيرته، فتحولت جدة إلى جزر بشرية، كل جزيرة لا تحتك بجزيرة أخرى، وبذلك فخالتك غادرت القرية، وجاورت قرويين من قريتها، وشكلت معهم جزيرة معزولة؛ لذلك من الطبيعي ألا تتأثر لهجتها حتى لو بقيت قرنا من الزمان.

يبدو ما قاله صديقي وصفا مقنعا، وهذا ما يحدث غالبا في الواقع، وعلى المستوى الشخصي حين انتقلت للعمل إلى جدة، حرصت على أن أكون قريبا من جماعتي أو جماعة زوجتي. وكذلك يفعل كثيرون غيري من الجنوبيين مع تفاوت فيما يفعلونه فيما بعد. فالبعض يستمر مع جماعته، والبعض لا يستمر؛ لأنه اكتشف المدينة وصعوباتها، وكيف يمكن أن يتغلب على ذلك، لذلك أصبح مطمئنا.

لكن وصف صديقي لا يفسر لماذا يبحث هؤلاء عن جماعتهم أولا؟ ولماذا يستمرون معهم حتى يكونوا الجزر البشرية التي تحدث عنها؟ بطبيعة الحال يمكن أن يتحدث المتخصصون عن أسباب كثيرة. مثلا فالمتخصص في عام الاجتماع سيتحدث من زاوية، والمتخصص في علم النفس سيتحدث من زاوية أخرى. ولأني غير متخصص لا في هذا ولا ذاك، فما أقوله مجرد تأملات فرد يعيش الحياة ويتأملها، ولكي تكون تأملاتي متماسكة، فسوف أبلورها في مفهوم الصداقة، فالصداقة بمعنى معين سأوضحه أدناه، هي التي دفعت الناس إلى بناء الجزر البشرية التي تحدث عنها صديقي. فالجنوبي مثلا إذا هاجر إلى مدينة كجدة، يبحث أولا عن صديق القرية، ثم صديق قرية قريبة من قريته، ثم صديق الإقليم، وهكذا؛ فميزة الحي الفلاني للغامدي أن أغلب ساكنيه من الغُمّد، وكذلك الحي الفلاني للزهارين، وإذا لم يكن هؤلاء ولا أولئك، فميزة الحي الفلاني أن أغلب ساكنيه من أهل الجنوب، ومن مختلف قراه وقبائله.

2

يعرف القارئ أن الصداقة قوربت مقاربات مختلفة، ومن منظورات متعددة كعلم الاجتماع، وعلم النفس، والفلسفة، وفي الفلسفة شغلت الصداقة بابين من أبواب كتاب أرسطو في الأخلاق، واستمرت الفلسفة في تأملاتها الصداقة، لكن من دون تعريف مانع وجامع بتعبير القدماء، وربما عدم معرفة الفرنسي مونتيني بتعريف الصداقة هو الأشهر بعد تعريف أرسطو. فمونتيني لم يجد تعريفا لصداقته مع دولابويسي إلا قوله لأنه هو، ولأنني أنا.. يحيا، ويتمتع، ويرى من أجلي، وأنا كذلك من أجله.. كنا لا نتمايز.

ينقد عبدالسلام بنعبد العالي تعريف مونتيني، ويراه تعريفا ينحصر في الوحدة الوجدانية بين الأنا والآخر، وهو تعريف من وجهة نظر بنعبد العالي قد يتنافى مع تعدد الأصدقاء، ويورد آراء تحصر الصداقة في الأصدقاء النادرين حتى أن صديقين هما من كثرة الأصدقاء عند يحيى بن جعفر، وهي حكاية توردها الكتب القديمة عندما تتحدث عن الصداقة، فقد سأل نديما من ندمائه كم صديقا لك؟ أجاب النديم: صديقين، فرد عليه يحي بن جعفر بثراء هذا النديم بالأصدقاء، وكلمة (ثراء) هنا كلمة ملتبسة، فربما تعني أن تعدد الأصدقاء ثروة، وربما تعني لقد أكثرت من الأصدقاء، وربما تعجب واستغراب من أن له صديقين.

وفي هذا السياق ففكرة ندرة الأصدقاء المخلصين فكرة واضحة في الثقافة العربية القديمة والحديثة، وأرجح أن الغالب من القراء يحفظون بيت الشعر الذي يتحدث عن كثرة الأصدقاء، لكنهم (في النائبات قليل)، وهي كما أرى ثقافة خطرة إذا ما نظرنا إلى المواطنين على أنهم في المقام الأول أصدقاء؛ بمعنى المشاركة الوجدانية، وهي فكرة تحدث عنها أكثر من مرة غاندي في نضاله السلمي ضد الاحتلال.

فكرة المشاركة الوجدانية هذه مفيدة لتلاحم المواطنين السعوديين؛ فهم مدعوون إلى أن يكونوا أصدقاء لبعضهم بعضا؛ أي أن يتشاركوا وجدانيا فيما يحدث، ليس على مستوى القرية فقط، بل أكثر من ذلك على مستوى الإقليم والمنطقة، وعلى مستوى أكبر هو الوطن. وفي هذا السياق أفهم أن خالتي لم تقم أي صداقة مع الأسر الحضرية الجداوية، وأن كل صداقاتها على مستوى قريتها أو القرى المجاورة.

3

لن تنشأ صداقة بين المواطنين كمشاركة وجدانية إلا حين يكون التعايش ممكنا، والتعدد مقبولا، والحوار جاريا، فالناس لا يعيشون التاريخ كمفهوم إنما يعيشون التاريخ كزمن للعيش. التاريخ كمفهوم يخص المؤرخين ولا يخص الناس الذين يتفاعلون مع بعضهم البعض. وكذلك الجغرافيا فالناس لا يعيشون الجغرافيا كمفهوم إنما الجغرافيا كمكان للعيش، يتفاعلون مع القريب والأقرب والبعيد والأبعد.

سآخذ بعدا واحدا من المشاركة الوجدانية هو البعد الديني في القرى الذي يساهم مساهمة فاعلة في بناء صداقة بين ساكني القرى، وهو بعد سيوضح الفرق بين الجيل القديم الذي أعرفه، والجيل الذي أتى بعده كجيلي والأجيال التي أتت بعدي. فالدين تطلع؛ أي علاقة مع الله في المقام الأول، فحين يقول أحدهم (لا إله إلا الله) فهو يعبر عن شعوره بالاستسلام لله، وبتوجهه إليه، ويعبر هذا عن نفسه في الحياة اليومية من خلال الالتزام بما يجعله فردا مستسلما لله الذي يأمر بالعفو والصفح عن الإساءة.

علاوة على ذلك ثم إن فالدين ليس الدين الذي يرونه في أبنائهم المتدينين، إنما الدين بوصفه تجربة اجتماعية يعبر عن نفسه فيما يقوم به الفرد منهم من أجل الآخرين كطينة البيوت، وبناء جدر البيوت التي تهدمت، وإعادة البلاد إلى حالتها قبل أن تجرفها السيول، وحضور الأعراس، وتشييع الجنائز، ومواساة ذوي الميت. وأنا مثل لذلك فلأنني مهمل في جوانب كهذه فما زالت أمي تذكرني باستمرار. تتصل علي لتقول إن فلان مات، وعليك أن تذهب للعزاء، وفلان سيزوج ابنه أو بنته، والواجب أن تحضر. تنصحني بأداء الواجب كفرد من جماعة، فغدا سيحدث لي ما يجعلني أحتاج للناس. وحين أمازحها قائلا: إذا مت استأجري أربعة عمال لدفني ترد عليّ جادة (الله يهدي من غوي). ثم تدعو لي دعوتها الأثيرة التي أحبها (أنت عاصي رأس وقاسي قلب. الله يليّن لك القلوب القاسية، والرؤوس العاصية).

ثم هناك الدين الذي لا يعرفه أبناؤهم لا في التوحيد ولا في الفقه، أعني الدين بوصفه تهذيبا للنفوس، فقد كانوا مهذبين فيما بينهم، ومع الآخرين. فضلا عن ذلك فإن إرادة الله عندهم لم تكن عندهم إلا إرادة الرحمة والعفو والمغفرة، منزل المطر حين تجف الأرض، وشافي الأجساد حين تمرض، ومحيي الأرواح حين تتصحر. الله جل جلاله؛ الآتي بالبعيد حين يطول فراقه، والحافظ للحبيب والصديق والقريب.

هنا يحق لي أن أسأل ماذا لو شاع هذا البعد الإنساني من الدين بين المواطنين السعوديين، ليس في القرية فقط، بل في كل مكان، وعلى امتداد الوطن؟ ستنشأ صداقة باعتبارها تشاركا وجدانيا. مثلا وفي هذا السياق فإني أرى المشاركة الوجدانية في (هاشتاقات) من أجل امرأة تعرضت للضيم من قبل رجل ترسخ الصادقة بين المواطنين بمعنى أنهم يتشاركون وجدانيا. ومن المؤسف أن يهاجم أحد مثل هذا (الهشتاق)، وتحت مفاهيم كالنّسوية مثلا، ومن المفيد هنا أن أقول إن عدم تصنيف المواطنين لبعضهم بعضا يدفع نحو التشارك الوجداني باعتباره صداقة غير مباشرة؛ لأن التصنيف كحداثي، ونسويّة، وشيعة وسنة، وسلفية إلخ لم تعد تصنيفات محايدة في مجتمعنا، وبإمكان أي قارئ أن يكوّن معجما للمفاهيم التي لم تعد محايدة، وتحولت إلى (مفاهيم حارسة) للمجتمع إذا ما استخدمت مفهوما من مفاهيم علم الاجتماع.

ذات مرة تحدث الروائي كونديرا عن الصداقة؛ ورأى أنها تحالف ضد الخصومة، ومن دون الصداقة سيكون الإنسان مكشوفا أمام أعدائه. إن صداقة المواطنين السعوديين هي في المقام الأول تحالف ضد أعداء الوطن، وفي عدم وجودها سيكون المواطنون ومعهم الوطن مكشوفين أمام أعدائهم وأعدائه. يرى كونديرا أيضا أن الصداقة فوق العقيدة، وهي الدليل على أن هناك ما هو أقوى من الأيديولوجيا، وأقوى من الأمة. نعم الصداقة فوق وأقوى من هذه المفاهيم التي جرت ( بعض) المواطنين السعوديين إلى العنف.