الأسئلة الكبرى تلح على الأطفال بشكل فطري، فهم بشكل ما (فلاسفة صغار)، ولكن خلال طفولتهم يتم قمع هذه الأسئلة بأساليب مختلفة، وأخطر الأساليب هو أن تنسب (ملكة التساؤل والتفكير) إلى الشيطان.

عندما نفعل ذلك ولا نستطيع دعم هؤلاء الصغار بالانفتاح الأكبر مع أسئلتهم بمزيد من الأسئلة التي تحافظ على ملكة التفكير لديهم لتساعدهم في مستقبل حياتهم، بدلاً من ذلك نمرنهم على (قمع عقولهم) بوصف (التفكير الذاتي) وساوس من الشيطان، وفي عمر المراهقة تحديداً تعود الأسئلة الكبرى تلح على المراهق من جديد، وينقسم المراهقون إلى نوعين، النوع الأول وهم الغالبية من الناس يستعيدون ما تعلموه في طفولتهم من قمع ذاتي (لتفكيرهم) باعتباره (وساوس شيطانية)، وهناك النوع الثاني وهم الأقلية يعمدون إلى التحرر من التقاليد القديمة التي تنسب (القدرة على التفكير) إلى الشيطان، فتقرأ وتقرأ وتقرأ وتقرأ ثم تقرأ وتقرأ، لتعرف الحد الفاصل ما بين (الوسواس القهري) الذي يجعله يعيد على نفسه وبشكل دائري كل ما يفعله، وما بين (السؤال العميق) الذي يحتاج إلى بحث وحفر معرفي مجهد، ولأن السؤال العميق ينبثق من داخل عقول نادرة فإن بذل الجهد في البحث عن (جواب مفتوح على السؤال) يكون سهلاً على هذه العقول النادرة.

بعد هذه المقدمة المبتسرة يبدأ السؤال: هل هناك إلحاد بين الشباب العربي؟ والإجابة باختصار يمكن قراءتها من خلال أوروبا التي أعطت العقل (أقصى مداه)، وما زالت الكنائس موجودة وما زال هناك كاثوليك وبروتستانت وغيرهما من طرق ومذاهب المسيحية، ولهذا نقول بكل ثقة: لا يوجد هناك إلحاد عربي بقدر ما يوجد هناك (ثورة أسئلة) ضد (الخرافة) لنجد (حماة الخرافة) يصرخون (الإلحاد.. الإلحاد)، ولهذا نستذكر (قفشات فولتير) على (القساوسة والرهبان) وقلقهم الكبير على مكتسباتهم المادية والمعنوية عندما بدأت مظاهر (العقلانية) في أوروبا، حيث كان القس يعيش على امتيازات تجعله (فوق الناس العاديين) فبمجرد أنه قس فهو (فوق الشبهات، فوق المحاكمات، فوق القوانين)، لأنه هو وبدعوى أنه (حامي الدين) قد أصبح (مصدر القوانين)، ولا أجد نموذجا يمثل (قساوسة القرون الوسطى) مثل نموذج (ولاية الفقيه) الشيعية، وتليها مباشرة (ولاية المرشد الإخواني)، ولهذا (فولاية الفقيه) ليست (قيادة رأي) يقبل الاختلاف كما يحصل مع (قادة الرأي) من النخب بأنواعها، بل (قيادة قرار) لا يقبل الخلاف، ومثلها (ولاية المرشد الإخواني) فكأنما هاتين الولايتين (ولاية الفقية الشيعي وولاية المرشد الإخواني) محاكاة (لولاية البابا) على ملوك أوروبا، يخضعهم بدعوى (الحق الإلهي) الذي يمنحهم إياه لحكم شعوبهم، ولقبولهم بهذا المنح ابتداءً، فبيده حرمانهم منه، فأصبحت العطايا تساق لهم لاسترضائهم لأنهم (ممثلو الرب على الأرض)، ولهذا انتشرت في أوروبا آنذاك (حالات الثراء الفاحش) لرجال الدين، وها نحن نرى خضوع البعض لولاية الفقيه الشيعي، وآخرين لولاية المرشد الإخواني كباباوات بعمائم سود وبيض للإسلام السني والشيعي، متلاعبين بعقول الدهماء ليصبح المنتفض على هذه البابوية عدواً للإسلام والمسلمين.

لنتأمل (الحالة العراقية) ونشاهد (التيه السياسي) لأغلبية شيعية عجزت عن حكم نفسها، بسبب (صراع المرجعيات)، فكأنما المشهد العراقي استعادة (لمظاهر الصراع البابوي مع أصحاب النفوذ في مقاطعات أوروبا)، بل يتجاوز خامئني نفوذ البابا في العصور الوسطى إلى مرجعية (بيدها الخمس والنفط والسلاح) ليقضي وفق نظرية (ولاية الفقيه) على فكرة (ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، ليصبح هو (الرب والقيصر) في آن واحد.

هل مشروع (ولاية الفقيه) بلغ أقصى مداه في الوجدان العمومي، وسينحسر مستقبلاً أمام المرجعيات الأكثر عمقاً وروحانية، (ونظافة يد من دنس السياسة وما فيها من دماء)، وهل أمريكا تمارس لعبة التوازنات (المذهبية بين سنة وشيعة) على المستوى الإقليمي، لما في هذا التوازن من امتصاص (لورم التطرف الديني) الذي أتعبها وأتعب العالم أجمع، ليستنفد الصراع الإسلامي قوته في (صراعاته المذهبية الداخلية) بدلاً من تصدير (ثورته) باسم (ولاية الفقيه) أو باسم (الخلافة الإسلامية) في أنحاء العالم، ولنراجع مشاهد تفجير السفارات والمباني ومحاولات الاغتيال والقتل... الخ، منذ بداية الأصولية الإسلامية بوجهيها (السني والشيعي)، منذ طرد الشاه باسم التشيع وقتل السادات باسم الإسلام حتى الآن، وستجد أن كل مذهب أخذ حصته في الإرهاب وفق حجم كتلته التاريخية.

أخيراً نرد على الملحدين بكلمة فولتير التي وردت في كتاب (قاموس فولتير الفلسفي) حيث يقول ص37 (إن الإلحاد رذيلة يقترفها قلة من الأذكياء، والخرافة رذيلة الحمقى، ولكن المدلسين!! ماذا يكونون؟ مدلسين)، ولهذا فالخطر الحقيقي على الأديان طيلة تاريخها ليس الإلحاد أو الخرافة، بل الخطر من (التدليس) في الدين، لأن (المدلسين) في الدين هم أسباب كل الشرور، ولم يكن الإلحاد أو الخرافة سوى نتيجة لهذا (التدليس) المتراكم عبر التاريخ والأجيال، والأخطر والأنكى أن يأتي (المدلسون) الجدد ليدافعوا عن (التدليس القديم) بحجة (الدفاع عن الدين).