العقل الذي يُمدَح به صاحبه هو عقل الرشد، وأما مجرد عقل الإدراك فلا يلزم منه الرشد، وإنما يعني أنه غير مجنون، وأنه مخاطب بالتكليف، وقد يرزق صاحبه بالرشد، وقد يكون سفيها يدرك الحق ويخالفه، بل يسعى في هلاك نفسه، لأنه لاعقل له، أي: عقل رشد.

فالذين خالفوا ما جاءت به الرسل، شهدوا على أنفسهم أنه لا عقل لديهم أي «عقل رشد» وأما عقل الإدراك فموجود لديهم، وإلا لرُفع عنهم القلم قال تعالى «وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير * فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَٰبِ ٱلسَّعِير».

وأي عقل لمن يُقدِم لذة محرمة عاجلة على نعيم دائم؟ وأي عقلٍ لمن يتجرأ على محارم الله، وينتهك حمى الله؟ ومعلوم أنه لو انتهك شخص حمى أي دولة لعرّض نفسه للهلاك، فكيف بمن ينتهك حمى الله، الذي خلقه، ونقله في بطن أمه طورا بعد طور، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، كما قال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين».

هذه النطفة بعد أن تكون إنسانا تتكبر وتنتهك حرمات خالقها، فتارة تُقدم عقلها على كلام الله ورسوله، وتارة تبارز الله بالمحادة والمعاندة، وتارة ترى فصل شريعة الله عن حياة الناس والتحاكم بينهم، وتارة تنتهك محارم الله بأدنى الحيل، وفي الحديث المتفق عليه: «أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُه» فهل يُعدُ عاقلا من ينتهك محارم الله، ثم لا يتوب، بل يستمر على تمرده وعصيانه ؟

أما من فعل ما فعل من الذنوب والمعاصي ثم تاب، فإن التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والله تعالى يفرح بتوبة عبده، لكن الإشكال في قوم مستمرون على التنفير من شريعة الله، وصد الناس عنها، بما يقولونه في كتاباتهم من منكر القول وزوره.

ولا تلتفت أخي القارئ لما يقوله أهل الأهواء، الذين يصفون أنفسهم بالعقلانيين والتنويريين وهم في الحقيقة لا عقل ولا نور، بل هم ظلاميون، فالنور هو شريعة الله، هو الوحي الذي أنزله الله، قال تعالى «وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم».

لا تلتفت لقولهم بأن الذنوب لا علاقة لها بالعقوبات والمصائب، فقد أكذبهم الله تعالى، فقال تعالى «فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا».

وقوم سبأ باليمن أنعم الله عليهم، لكنهم ملّوا النعمة، وأعرضوا، ولم يشكروا الله، فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة: هي أن الله أرسل عليهم سيل العرم ومزقهم كل ممزق، وجعلهم أحاديث، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، من فعل فعلهم، ناله ما نالهم، قال تعالى «لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».

إنني أعجب من جرأة بعض الكتاب في مواقع التواصل وبعض الصحف، أعجب من جرأتهم على شريعة رب العالمين، من جرأتهم على كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ومن تشكيكهم في أركان الإيمان كالقضاء والقدر... إلخ، وليس لهم في ذلك أدلة أو وجهة نظر يمكن كشفها ومناقشتها، إنما هي أهواء، وتمرد على الشريعة، فاللهم إنا نبرأ إليك مما قالوا، ونسألك ألا تؤاخذنا بما يقولون، وأن تهدينا وإياهم إلى صراطك المستقيم.