من أهم ما يغفل عنه الناس -وهو من أحقِّ الحقائق- أن نفوس الأدباء لها أوقات صفْوٍ وأوقات كَدَر، وأنها في أوقات الصفاء قد تُبْرِم قوانين، وتخلق معاني، لا تتأتَّى لها في جميع الأحايين!

وربَّما لاح في فكر الأديب خاطرٌ في إحدى السُّوَيْعات؛ لو استرسل فيه لأتى فيه بالعجائب، على حين أنه إذا نشده في وقت آخر، وحاول أن يستأنف ما كان يلوح له في ساعة الصفاء، لوجد زَنْدَه فيه صلدًا، ورأى أنه يهيب بتلك الخواطر السابقة فلا تجيبه، ويطمع أن يقتنص تلك الشوارد التي كانت بين يديه، فإذا هي الآن لا تُطِيعه، ومنها ما ذهب غير مُعاوِد، ومنها ما عصى غير مقرِن!

ولذلك كان يجب على الأديب شفَّاف الطبع أنه إذا عَنَّ له في سُوَيْعات الصفاء معنى مُبتكَرًا، أو خاطرًا شريفًا، ووجد هذا الموضوع مُنثالًا؛ عليه أن يُسرِع إلى قَيْد أوابده، ويأخذ القلم فيحرِّره، وإذا كان شعرًا نظمه، وإذا كان نثرًا دبجه، حتى لا يفوته فيما بعدُ، فإن الأفكار من جملة حظوظ الدنيا، تَهُبُّ أحيانًا، وترْكُد أحيانًا، فإذا هبَّت مرة وجب اغتنامها، ولم يجُزْ إهمالها على نيَّة أن يُعاد إليها مرة أخرى.

وإن الأفكار نظير الأقدار، ليس في مقدور الكاتب، أو الشاعر أن يُجِيدها كلَّ حين، وقد تفيض على الرءوس أشعَّة إذا ولَّت تعذَّر استردادها، فاللَّبِيب اللَّبِيب هو الذي يقتنص الشارِدة لأوَّل سنوحها، ولا يدعها تذهب على أمَلِ أنه يصطادها فيما بعدُ، فإنها إذا شردت قد تفوت، والفَلاة طويلة عريضة، فلا يُحِيط بها الصائد، ولا تُطوَى له كيف يشاء.

1923*

* كاتب وأديب لبناني «1869 - 1946»