باتت حقوق الإنسان قضية أساسية يوليها المجتمع الدولي عظيم عنايته وتتمسك مؤسساته العدلية بفرض مراعاتها على الدول والمؤسسات والجماعات كلها، ولا تتساهل مع خرقها وانتهاكها، لذلك يحتفل العالم في العاشر من ديسمبر سنويا بهذه الذكرى، ويحيي سيرة الذين قضوا حياتهم مدافعين عن هذه الحقوق، وأظهروا حرصهم على صيانة قيم الحرية والكرامة والمساواة على مر العصور.

وقد شهدت هذه القضية تطورات عديدة خلال العقود الماضية حتى تكللت جهود الدفاع عن هذا الإنسان الذي كرمته الأديان السماوية والثقافات الإنسانية بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948، ليكون خطوة أساسية في منظومة الجهود العالمية التي تضمن حقوق جميع البشر، وصياغتها في وثائق مكتوبة، بعضها استرشادي كالإعلانات والمدونات وقواعد السلوك، وبعضها ملزم كالاتفاقيات الدولية.

ورغم الضغوط السياسية التي قد تمارس أحيانا من جانب الدول الكبرى والمؤثرة في صناعة القرار العالمي، لغض الطرف عن بعض الانتهاكات التي يشهدها العالم مراعاة لحسابات بعينها، فإنها تبقى استثناءات وليست قاعدة، وقد يكون ذلك التغاضي مؤقتا وليس بصورة دائمة، بل إن الحقيقة المؤكدة تبقى هي أن من يستطيع الهروب اليوم من مسؤولياته عن تلك الانتهاكات، سيجد نفسه حتما عرضة للمساءلة عنها في أي لحظة ومهما طال الأمد.

كذلك توسعت الأمم المتحدة وبقية منظمات المجتمع الدولي خلال العقود الماضية في ترسيخ مفاهيم حقوق الإنسان وتوسيع دائرة المسؤولية، بحيث لم تعد محصورة على الحكومات والدول، بل إن جزءا كبيرا منها يقع على عاتق منظمات المجتمع المدني التي تتبوأ في كل يوم مكانة أرفع وتتولى مسؤوليات أكثر، فأصبح من واجب الجميع القيام بكل ما هو ضروري لتعزيز تلك الحقوق، مثل الدفاع عن حقوق اللاجئين أو المهاجرين أو الأشخاص ذوي الإعاقة أو النساء والأطفال أو أي شخص آخر يعاني من خطر التمييز أو العنف.

ونظرة سريعة على الواقع المحلي في بلادنا يتضح أن المملكة حرصت منذ توحيدها على العناية بحقوق الإنسان من منطلقات خاصة بها، أبرزها تأسيسها على كتاب الله وسنة نبيه، فأدرجت هذه القضية في مقدمة نظامها الأساسي وعززتها بكثير من النصوص القانونية الواضحة التي تؤكد أن جميع المواطنين سواسية أمام القانون دون أي اعتبارات مناطقية أو مذهبية أو جنسية أو عرقية، وأن معيار المفاضلة الوحيد بينهم هو الالتزام بالأنظمة واللوائح.

واشتهر المغفور له- بإذن الله- الملك عبدالعزيز آل سعود بحرصه الشديد على حقوق الناس وحفظ كرامتهم، وعدم تهاونه فيها إطلاقا، والحسم والصرامة في ذلك مع المتهاونين والمتجاوزين كلهم، ووضع بذلك أسسا متينة لدولة عصرية فتية قائمة على العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان، وبذلك امتلكت الدولة أهم العوامل التي تعينها على البقاء وتساعدها على الانطلاق.

وبعد وفاته– رحمه الله– تولى أبناؤه الملوك هذا الأمر، وساروا على درب والدهم واقتفوا أثره، وأسهم كل منهم بمقدار ما وسعه الجهد في هذا الجانب، فسنت القوانين والأنظمة، وكان ذلك المدخل الرئيس للنهضة التي شهدتها المملكة والتطور الذي نعمت به مناطقها كافة، انطلاقا من القاعدة الذهبية التي تقول، إن العدل هو أساس الملك.

مع استصحاب كل ذلك فإنه يتوجب القول، إنه منذ تقلد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز- حفظه الله- مقاليد الحكم، شهدت المملكة وتحديدا بعد إقرار رؤية المملكة 2030 ثورة تشريعية متكاملة الأركان كان لها عظيم الأثر في تعزيز هذه المبادئ وترسيخها وصيانتها، فقد نالت هذه القضية اهتماما متزايدا خلال الفترة الماضية، وبذلت القيادة السعودية والجهات ذات الصلة جهودا كبيرة لأجل ترقيتها واستكمال النواقص، وذلك لاستيفاء مطلوبات توقيع المملكة على عديد من العهود والمواثيق الدولية، والتناغم مع الموجهات العالمية ذات الصلة.

ولتأكيد ذلك يكفي القول إنه منذ إقرار الرؤية وحتى الآن تم إصدار 70 قراراً إصلاحياً تتناول حقوق الإنسان، وهو ما يؤكد الجدية التي تتعامل بها السعودية مع هذا الملف، ولا أدل على ذلك من أنها أصبحت بين 36 دولة أكملت الإيفاء بتعهداتها الدولية من جملة 197 دولة في العالم.

هذا التفاعل الكبير كان نتيجة لرغبة مجتمعية داخلية في تعزيز هذه الحقوق، وانسجاما مع ضرورة تحقيق التغيير الإيجابي المطلوب في بنية المجتمع، وتشجيع وتسريع جهود تطوير الاقتصاد التي تتطلب وجود قوانين واضحة وأجواء من المؤسسية والحوكمة والشفافية التي هي من أبرز سمات دولة القانون.

الجديد كذلك هو أن منظمات المجتمع المدني أصبحت شريكة في تعزيز هذه القيم لترسيخها ضمن ثقافة المجتمع، ومع التقدير التام لهذه الجهود فإن تلك المنظمات التي تتزايد أهميتها والأدوار الحيوية التي تقوم بها كما ذكرت آنفا مطالبة ببذل مزيد من الجهد وتطوير أدواتها وحوكمتها وتعريف العالم بالمكانة التي وصلنا إليها والطموحات التي نحملها والخطط التي نعمل على إنفاذها.

ستمضي المملكة دون شك في طريقها الذي اختطته لنفسها، وتعزز حقوق مواطنيها والمقيمين على أرضها وزوارها، وتدعم محيطها الإقليمي والدولي في هذا الصدد، وسينعكس ذلك خيرا على مجتمعها ومكانتها، وستجني ثمار ذلك مكاسب متعددة تشمل كثيرا من المجالات، في مقدمتها جذب مزيد من الاستثمارات، لأن المستثمر الأجنبي يحرص على وجود قوانين واضحة تحمي حقوقه ومكتسباته، ووجود أجواء من المؤسسية والحوكمة والشفافية التي هي من أبرز سمات دولة القانون.