كتبت الروائية اللبنانية علوية صبح، عن المرأة وشؤونها الاجتماعية، في ظل ظروف سياسية واجتماعية متعلقة بالمرأة اللبنانية، ولكن يمكن تطبيق ما كتبته على النساء في كل بقاع العالم. في روايتها الأخيرة «اسمه الغرام»، تناولت علوية عاطفة الأمومة، وكيف تغلبت على عاطفة الحب عند بطلة الرواية.

طرحت علوية صبح على لسان البطلة تساؤلا كبيرا، يعكس شدة ما تعانيه المرأة عندما توضع عاطفتها تجاه أطفالها على المحك: «كيف سأعيش بدون رائحة طفولتهما؟».

هذا السؤال يحمل أوجها عديدة من صراع الأمومة ضد متطلبات الحياة، ويقدم الأمومة بوصفها هبة إلهية للمرأة، صنعت خياراتها في الحياة، وجعلت أي خيارات منافسة للأمومة مأزقا كبيرا للمرأة، يفرض عليها العيش في حالة تحد مع طبيعتها، تقول بطلة الرواية: «في السيارة تخيلت الخطوة الأولى عندما مشت ابنتي، حيث أدركت وقتها معنى الخوف الحقيقي. كنت أشعر وأنا أراقبها، بأني أمسكها بعيني، كما لو أن نظراتي إليها أشبه بمساند تسندها لتمشي خطواتها الأولى بدون أن تتعثر. تخيلت نفسي كيف كنت أحصي أنفاس كل منهما قبل أن يناما، لأتاكد من أن صحتهما جيدة. أحصي عدد أنفاسهما وهما نائمان، لأعرف ما إذا زادت أو نقصت، لأطمئن إلى أنهما بخير». تتحدث البطلة هنا عن مشاعر كل الأمهات في العالم تجاه أطفالهن،عن عاطفة الأمومة وحنان الأم، وحبها غير المشروط وتفانيها في حماية أطفالها. عاطفة الأمومة في رواية علوية ليست نتيجة للثقافة أو تقاليد المجتمع، بل هبة سماوية تميز كل أمهات العالم باختلاف ثقافتهن. تضيف بطلة الرواية قائلة: «ابني الذي صار الآن رجلا متزوجا، تصورته آنذاك متوحدا حزينا. أحسست يومها بأنه، بفقداني، سيشعر هو وأخته بأنهما فقيران وضعيفان.. وبلا حماية. إزاء تلك المشاعر شعرت بأن ثمة حبالا طرية قوية تربطني بولديّ، لكنها أقوى من حبال الحب. حبال في منتهى النعومة، لكنها أصلب من الحديد، فكيف لي أن أفك عراها؟».

ما كتبته علوية صبح مشترك إنساني يميز نساء العالم، ولكن ماذا لو اصطدمت عاطفة الأمومة تلك بإكراهات سوق العمل، ووجدت المرأة نفسها في صراع داخلي بين عاطفتها تجاه أطفالها، وبين إغراءات السوق وما يقدمه من استقلال اقتصادي واجتماعي للمرأة؟ كيف يمكن للمرأة أن تضع طفلها في بؤرة اهتمامها، وفي الوقت نفسه يجب عليها أن تعمل بدوام كامل في سبيل تحقيق طموحاتها واستقلالها الاقتصادي؟ أن تعمل المرأة بدوام كامل، بمعنى أن تصب كل اهتمامها لتلبية متطلبات الوظيفة، فستبدو وكأنها اختارت ألا تضع طفلها في بؤرة اهتمامها، وهذا ليس بالأمر الهين.

تقول الكاتبة النسوية النرويجية «لين ستالسبيرج» متحدثة عن هذه المشاعر المتضاربة عند المرأة العاملة: «ونحن النساء نعلم أنه لا ينبغي أن تؤرقنا ضمائرنا ونشعر بالذنب. وإذا شعرنا بذلك فعلينا أن نتخلص من ذاك الشعور، لأنه علامة من علامات الضعف. وأتساءل إن كان رفض هذا الضمير المؤرق أصبح في حد ذاته فعلا أنثويا».

التضارب بين خدمة سوق العمل بدوام كامل، وخدمة الأطفال عند المرأة العاملة، صنع شكلا من أشكال الضمير المؤرق أو الشعور بالذنب تجاه أطفالها، إن رفض الشعور بالذنب، لا يمكن تصوره يصدر من الرجل، فهو قادر على العمل لساعات طويلة خارج المنزل، دون أن ينتابه إحساس بالذنب، أو يعيش صراعا مزدوجا للتوفيق بين العمل والأسرة، فهما ليسا عالمين منفصلين عند المرأة العاملة، بل هما عالمان متشابكان ومتضاربان، يؤثر أحدهما في الآخر، يكون على هيئة حزن أو إحساس بالذنب أو اشتياق للطفل، أطلقت عليه لين ستالسبيرج اسم «الحزن الممنوع»، ووصفته كشعور سائد تجتره كثيرات من السيدات الناجحات، وهؤلاء اللاتي يشتقن لأطفالهن، ومع ذلك يجلسن أمام الحاسوب يكافحن من أجل مستقبلهن الوظيفي.

مشكلة العمل الذي يفرضه سوق العمل العالمي، هو النظام الذي يعيش فيه معظم البشر، ويتحركون ويحافظون على كيانهم من خلاله، أنه يتعامل مع الجنسين بالمعايير نفسها، دون النظر لخصوصية المرأة. صحيح أن ثقافة السوق سعت لاستبدال كل المعايير والقيم، التي تلاشت باستمرار، وأصبح كل شيء وكأنه يتداعى ضمن حركة الأسواق، لكن تظل الأمومة راسخة أمام كل التحديات والصعاب، التي تفرضها السوق الحديثة.