شاهدنا في كثير من المواقع المعنية بالتوظيف، كيف يعرض طالب الوظيفة مهاراته وخبراته، وما يتمتع به من قدرات ومؤهلات تميزه عن غيره. فالكل يعرض قدراته التي تعجب سوق العمل ومتطلباته، وكأن طالبي الوظيفة أصبحوا سلعًا مادية، لها مواصفات ومقاييس يمكن تحديدها في صفحة واحدة. تحولت ذات الإنسان ومهاراته وأفكاره ووقته إلى منتج يعرض في أسواق العمل. وهذا يعكس ما تملكه ثقافة السوق من قوة دافعة للتغيير والتجديد في الحياة، وبالتالي تحديد الأدوار الاجتماعية للرجل والمرأة التي تتحدد بفضل القوة غير المرئية لحركة الاقتصاد.

القوة الاقتصادية الدافعة لحركة المجتمع تملك قدرًا أكبر في التأثير والتغيير أكبر من أي موروثات أو تقاليد أو أعراف اجتماعية، وثقافة المجتمع ــ أي مجتمع ــ ستقف عاجزة أمام حركة الاقتصاد، فقوى السوق لا تعير أدنى اهتمام لثقافات الشعوب، واهتمامها بها سطحي ومحدود. اليوم لدى السوق ثقافة استهلاكية شاملة قادرة على الانتشار السريع بفضل ما تملكه من وسائل إعلام تغطي كل أنحاء العالم، وتؤثر في آمال شعوب تعيش بمناطق واسعة من العالم. وبفضل قدرتها على التطبيع والتأثير فإنها قادرة على توحيد ثقافات الشعوب، وبالتالي صناعة «نموذج كوني» للرجل والمرأة حتى مع الاختلافات الثانوية لثقافة المأكل والمشرب والملبس، وبعض التقاليد الاجتماعية هامشية التأثير. ولكنها عمليًا قادرة على صناعة أدوار اجتماعية للجنسين وفق أنماط العمل التي تقوم عليها.

في كتابها «اللغة والجندر» تقول الكاتبة البريطانية ماري تابلوت: «تبنى بعض الباحثين منظور قوى السوق، إذ عدّوا الاقتصاد العامل الحاسم الذي يؤثر في استخدام الصيغ القياسية أو العامية. ورأوا العمل بأنماطه وعلاقاته هو العامل الحاسم، وتجنبوا الاعتماد على فكرة البنية الطبقية الموجودة مسبقًا التي ميزت دراسات التدرج الاجتماعي». طبعًا حديث تابلوت يقتصر على تأثير قوى السوق في منتجات اللغة الثقافية، وكيف تؤثر قي استعمال الصيغ اللغوية التي تحدد مكانة الرجل والمرأة ومقدار الهيمنة على اللغة، وكيف أن العامل الاقتصادي هو المسؤول الحاسم عن تأثيرات اللغة في الأدوار الاجتماعية للجنسين.

والاستعمال الطبقي أو المتحيز للغة يصب بنهاية المطاف في التحيز لجنس ضد الآخر.

وتضيف تابلوت معلقة على دراسة أجرتها باتريشيا نيكولز حول المجتمع الأسود في كارولينا، واستعمال النساء للغة القياسية في العمل: «ووجدت أن العديد من النساء لديهن وظائف تنقلهن إلى خارج مجتمعهن المباشر، مما يضرهن ويجبرهن على استخدام صيغ أكثر التزامًا بالمعايير اللغوية وأقل ارتباطًا بمحل إقامتهن، ومن ناحية أخرى فضل الرجال العمل في أماكن إقامتهم وفي وظائف لا تتطلب اللغة الإنجليزية القياسية». يتضح من حديث تابلوت التأثير العميق والحاسم لقوى السوق في لغة العمل، فما بالك بما يضمره السوق من أثر غير مرئي في تحديد الأدوار الاجتماعية للجنسين على حد سواء.

وقع كثير من النقاد والمثقفين العرب في أخطاء منهجية متعلقة بتحديد أسباب التحيز ضد المرأة عندما تجاهلوا العامل الاقتصادي وثقافته المحددة لأدوار الجنسين في مجتمعات الغزو والحرب، أو مجتمعات الصيد والمجتمعات القائمة اقتصاديًا على الزراعة، وكيف أن معاناة المرأة تنتقل من عصر إلى عصر مع تغير أنماط العمل، فما زالت المرأة تشعر بظلم الرجل وتهميشه لها حتى في العصر الحديث، عصر العلم وتطبيقاته ممثلا في السوق وثقافته الاستهلاكية.