1

يمكنني أن أنوّع على معنى (الذين لا يضحكون)؛ أعني أولئك الذين نحت لهم الكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه كلمة خاصة بهم. سأنوع وتصرّف وأبتعد عما يعنيه رابليه؛ فالدقة في استعمال الكلمات والمفاهيم لا يجب أن تكون على حساب فهم القارئ. ألم يقل الفيلسوف كارل بوبر إن البحث عن الدقة في الكلمات أو المفاهيم أو المعاني هو عمل عبثي بلا طائل. وإن المفاهيم المحددة بدقة، والمفاهيم ذات الحدود الحادة غير موجودة، وإن البحث عن الدقة من أجل ذاتها إهدار للوقت والجهد في الأشياء التمهيدية التي غالبا ما يتضح أنها عديمة الفائدة، وإن الدقة لا يجب أن تكون أكثر مما تتطلبه المشكلة قيد النظر.

في أي حال؛ فإن الذين لا يضحكون هم من الكثرة في نخبنا الثقافية إلى حد أنهم يرون متابعة كرة القدم مثلا ثقافة هابطة، وذوقا رديئا. يفخرون أنهم لا يعرفون اسم لاعب واحد، لكنهم يشجعون المنتخب الوطني حتى لو أنهم لا يعرفون اسما واحدا من أسماء لاعبيه. يتحدثون مستهزئين أننا من الغنى بحيث يمكن أن نعطي كل لاعب كرة، فلماذا نجعلهم يركضون خلف كرة واحدة. ما الذي سيقوله الآخرون عنا! سيقولون إننا لا نملك حتى الكور لكي نوزعها. هؤلاء الذين لا يضحكون يستغربون أن تكون الأقدام أغلى من العقول، وأن تكون ميزانيات الأرجل بالملايين، بينما ميزانيات الرؤوس بالمئات. جديون في هذه الأسئلة فهم لا يضحكون، وإذا ما ضحكوا فهم يضحكون على الأزمنة التي تعلي الأرجل على الرؤوس.

2

على الضد من هؤلاء هناك من يتأمل الرياضة ليقرأ فيها ما يمكن أن تخفيه، ولا تعبر عنه في الظاهر. ففي الرسائل بين الروائيين الأمريكي بول أستر والجنوب إفريقي كيتزي، هناك نقاش حول الرياضة، وهو بطبيعة الحال نقاش مهم بين كاتبين هما من أهم كتاب القرن العشرين. ولأنهما تحدثا عن الرياضة بشكل عام فسأستلهم أفكارهما لأتحدث عن مباريات كرة القدم. ففي هذه المباريات مكون سردي قوي. نحن نتابع في المباريات التفافات الصراع وانعطافاته لنعرف النتيجة النهائية للمباراة. نحن نتابع المباريات لكن متابعتنا لها لا تشبه متابعتنا قراءة الكتب، على الأقل ليست تلك الكتب التي يؤلفها بول أوستر أو كويتزي. قد تكون المباريات على علاقة وثيقة ببعض أنواع الأدب كروايات الإثارة أو الروايات البوليسية. مباريات كرة القدم كالرواية البوليسية؛ تكرر نفسها، وتتكرر بلا نهاية، هناك آلاف التنويعات البسيطة في الروايات البوليسية على الحكاية نفسها، وهناك آلاف التنويعات البسيطة في مباريات كرة القدم ومع هذا التكرار فإن الروايات البوليسية تجد قراء متلهفين لقراءتها، مثلها مثل مباريات كرة القدم. يتلهفون كما لو أن أي رواية بوليسية جديدة هي أداء جديد، وغير مكرر لأحد الطقوس، وكذلك هي مباريات كرة القدم، فيها ما يبقينا حتى تنتهي، اللعبة في الرواية البوليسية أو في مباراة هي الجانب السردي فيها.

3

كان ذلك أعلاه من جهة، لكن من جهة أخرى ما يحتاجه الجانب الجمالي لمباريات كرة القدم هو الاحتياج إلى الأبطال الذي تشبعه المباريات، كما حدث مع الأرجنتين في كأس العالم الأخيرة. وهو احتياج يكون الأطفال في أمس الحاجة إليه؛ لأنهم ينشؤون في أنفسهم حياة فنتازية منعشة، وهذه الفنتازيا الطفولية هي التي تضرم الكبار لكي يتابعوا مباريات كرة القدم. لا بد من أن يكون جنون جماهير لكرة القدم نابعا من موضع عميق في الروح؛ فثمة ما هو أكثر من التلهي العابر أو التسلية. هناك تنافس لذيذ، لكنه ليس لذة أبدا، بل حالة استلاب يكون فيها تركيز العقل على هدف واحد، لكنه هدف عبثي وهو أن تلحق الهزيمة بغريب لا تهم به، ولم تقابله من قبل، وربما لن تقابله في ما بعد. هل يهدر المشاهد وقته حين يشاهد مباراة؟ ذلك ما يقوله كيتزي، وهو قول لا نوافقه عليه، فعلى عكس ما يقول يمكننا أن نرى فيها معنى.

4

ربما يحتاج القارئ إلى العودة إلى هذا الرابط (https://www.youtube.com/watch?v=g1TKd68RQjw) الذي يبدو فيه مارادونا وهو يمارس الإحماء قبل إحدى المباريات. في الغالب؛ لا أحد شاهد مارادونا يلعب كرة القدم من دون أن يقع تحت تأثيره بوصفه لاعبا استثنائيا في التاريخ. لا يظهر هذا الجانب كثيرا في المقاطع المصورة المحفوظة له الآن. عليك أن تشاهد مباراة كاملة لكي تشعر بما يفعله حين يفكر ويقرر ويخطط ويمكر ويسوس ويقود الفريق؛ مارادونا اللاعب الذي يحتفظ بموهبته، وما يمكن أن تقدمه له ولهم، حين يكون لاعبو الفريق قد قدموا كل ما لديهم. يعرف متى يصوب الكرة، ومن أي زاوية، وفي أي زاوية، متى يحتفظ بالكرة، ومتى يمررها للاعب آخر. إنه يلعب فقط ولا يعرف لما يقوم به نظرية أو قواعد مكتوبة. لقد اكتسب (الحس باللعبة) من خلال الانهماك في اللعبة. الأمر قريب مما يمكن أن نسميه (سر اللعبة وروحها). هذا هو حال (دييغو أرماندو مارادونا)مقارنة مع لاعبين آخرين كميسي ورونالدو. يعرف كيف يربط بين الجميلات، والفاتنات، والمخدرات إلى آخر (مرضه الداخلي) وسمنته أحيانا، أو إرهاق سهر أحيانا أخرى إلى آخر (مرضه الخارجي)، لكن قبل أن يصل إلى لحظة الربط هذه كان قد عانى معاناة قاتلة، وأشرف على الهلاك مرات عديدة؛ ثم تطفو لحظة الربط تلك لتأتي معها بحياة جديدة كانت قبل ذلك مجهولة، حياة تهدم جميع العقبات؛ عندئذ يلعب بما يُسمى «مبدأ الزمن الأقل»؛ أي أنه يفعل فحسب، من دون أن يعرف لماذا فعل ذلك. يتصرف بما يشبه الضوء الذي لا يدرس مساراته قبل أن يبدأ رحلته؛ فالضوء لا يعرف أنه يتخذ أقصر مسار ممكن. إنه يفعل فحسب. لا يعرف ما يفعل حين يمرر الكرة، أو يسددها أو يحتفظ بها، إنه يفعل الصحيح فقط. يعرف أي حل أفضل لأي مشكلة تطرأ على الفريق، ثم يقتنص لحظة لا تظهر إلا في زمان ومكان محددين، كلحظة يده تلك؛ لحظة يد الرب.