أما عملاق الأدب العربي والسوداني الأديب الطيب الصالح فقال: «ما الذي يبني لك المستقبل يا هداك الله وأنت تذبح الخيل وتبقي العربات، وتميت الأرض وتحيي الرفات».
في أرض النيلين، حيث تتدفق مياه النيل العظيم، يقف السودان اليوم على مفترق طرق تاريخي، محملًا بتراث غني وثقافة عريقة، لكنه يعاني ويلات الأزمات المتلاحقة. السودان، الذي كان يومًا مهدًا لحضارات عظيمة، يواجه اليوم تحديات جسام تهدد كيانه ومستقبل أبنائه. يُعرف الشعب السوداني بطيبته ونزاهته، وهم يُظهرون قوة وصمودًا استثنائيين في وجه التحديات الكبيرة. إن الروح الجماعية والتعاون بين أفراد الشعب السوداني كانت تُعد مثالًا يُحتذى به، حيث يُظهرون الدعم المتبادل والتضامن في أصعب الظروف. وعُرف السودانيون في الخليج العربي بالنزاهة والاستقامة، لذلك سمعتهم الطيبة جعلتهم مقربين من العوائل الخليجية، وربما لا توجد عائلة خليجية إلا وعمل معها سوداني بطريقة أو بأخرى. منذ كنا صغارا والإخوة السودانيون كانوا موجودين في شتى المجالات، من المهن ذات التعليم الأدنى إلى أعلى الشهادات، وهذا ما يميز الإخوة في السودان. لكن في المقابل تجدهم يشتركون في صفات عامة مهما كان المستوى التعليمي أو المنصب، أبرزها الاستقامة، وأيضا تقاربهم ومساعدتهم لبعضهم البعض كشعب سوداني، ولكن الحرب الأهلية أثرت بشكل كبير على حياة الناس هناك، وأدت إلى معاناة واسعة النطاق.
شيء كئيب جدا يصعب فهمه حاليا، ويدعو إلى التساؤل والحيرة والاستغراب! كيف لشعب عربي كان يضرب به المثل في التكاتف مع بعضه البعض أصبحوا في حرب أهلية، يقتلون بعضهم البعض دون رحمة ودون أخلاق! لطالما كانت النزاعات السياسية والانقلابات جزءًا من تاريخ السودان منذ استقلاله، ولم يتجرأ أحد أن يكسر القواعد العرفية الأخلاقية، ولكن للأسف الحرب الأهلية الحالية تتميز بغياب القواعد الأخلاقية والإنسانية، فهناك قتل دون مبرر، وسرقة ونهب وانتهاكات بشتى الأنواع، وتُظهر الأحداث الجارية كيف أن بعض الفاعلين في الأزمة قد استعانوا بمرتزقة، وجلبوهم من شتى الأرجاء، لقتال أبناء شعبهم، وفتحوا لهم المجال دون وازع أخلاقي لارتكاب أبشع الجرائم، من قتل وسرقة وانتهاكات دنيئة. إن بعض الإخوة في السودان يقولون إن من يرتكب الانتهاكات هم المرتزقة! لكن من أحضر المرتزقة، وأعطاهم المجال ليفعلوا ما يفعلون بالسودانيين؟ أليس سوداني من أحضرهم!؟
لا يزال الوضع الأمني في السودان متقلبًا مع استمرار الاشتباكات، مما أدى إلى موجات نزوح جماعي للسكان. وقد وصفت الأمم المتحدة الوضع بأن الشعب السوداني «عالق في جحيم من العنف»، مع خطر مجاعة متفاقم بسبب موسم الأمطار، وعقبات تحول دون وصول المساعدات. سلة غذاء العرب وصاحب النيلين أصبح يعاني المجاعة!
ويُعاني السودان أيضا تدخلات دولية متعددة، حيث يسعى اللاعبون الدوليون والقيادات العسكرية والسياسية المحلية إلى السيطرة على ثروات البلاد، متجاهلين مصالح المواطن السوداني العادي.
الأمريكيون موجودون على الخط، والروس أيضا والصينيون والإيرانيون والدول الإفريقية. الأمريكيون كانوا يستطيعون بسهولة إيقاف الحرب من خلال «الجزرة والعصا»، فهم يعرفون جيدا أماكن القادة العسكريين المتناحرين، ولو أرسلوا تحذيرا ذا مصداقية للمتصارعين لتوقفوا، وربما لو أرسلوا طائرة واحدة فوق المقر السري الذي يختبئ فيه كل من طرفي النزاع (وهم يعرفون أماكنهم جيدا) لتوقفت الحرب، وتم تثبيت وقف النار والهدنة. لكن السياسة كالعادة تقول: «انتظار كل من طرفي النزاع حتى يستنفدوا طاقاتهم وقواهم، ثم يأتي الكاوبوي لجمع المغانم والفوائد بسهولة، والأطراف الدولية الأخرى أيضا كل يساند طرفا لعله يفوز، فيحصل على الغنائم من ثروات السودان أو حتى نكاية في طرف آخر»!
السعودية الوحيدة تدخلت منذ البداية من أجل السودان والشعب السوداني، وحاولت جمع الأطراف وتثيبت الهدنة. لكن المتنازعين لم ينفذوا وعودهم. لست أقول ذلك لأني سعودي، ولكن لننظر لتاريخ أفعال السعودية مع السودان خلال العقود الماضية. تاريخ ذهبي طويل من الحرص والمبادرة لمساعدة السودان في كل أزمة دون أن تكون لها مطامع، والشعب السوداني يعرف ذلك جيدا.
على الرغم من الصورة الكئيبة التي تبدو عليها الأوضاع، يظل هناك بصيص أمل يتمثل في الإرادة الشعبية، فالشعب السوداني بحماسه ونزاهته وتطلعه للتغيير يمكن أن يكون قوة دافعة نحو مستقبل أفضل. ومع الدعم الدولي المناسب والسياسات الحكيمة، يمكن للسودان أن يتجاوز هذه المرحلة العصيبة، ويبني مستقبلًا يليق بتاريخه العريق وإمكاناته الكبيرة.