إذا حالفك الحظ ووجدت صورتك الشخصية ضمن قائمة معنونة من «التراث» فاعلم أنك قد خطوت خطوة إلى متحف التاريخ، وأنك في عداد ديناصورات الوقت الحالي، فأنت بالتحديد ذكرى الزمن الذي فات، وصورتك المعمدة بمحاليل التحميض هي الشاهد على عبورك من محطات العمر الطويلة، المحطات التي اجتزتها خفيفًا وسريعًا دون أن تطيل النظر في صورتك.

سيهبك الناظرون تحديقاتهم، وهم يبحثون عن الفارق بين الأمس واليوم، بين إنسان الصورة وإنسان الواقع، وبين أشكال التعبير عن الذات في الصورة قديمًا وحديثًا، وما بين الدهشة للفوارق السبعة بين أمسك ويومك، سيتأرجح الناظرون على أطراف التهكم؛ لأنهم إما كانوا على ذات الأرجوحة يومًا، أو لأنهم عبروا للحياة دون الوقوف بها.. الدهشة واحدة، ودوافعها شتى، ولعل هذا ما يجعل من مشاعر المحمول على تابوت التراث مختلفة عن حامليه، فالأول يضحك بقلق، أو ربما بشيء من التريث؛ لأنه لا يريد أن يعدد السنوات والأيام والساعات التي فارقها، فهذا هو المارثون الذي لا يريد أحد أن يصل إلى نهايته قبل الآخرين.

التسميات التي يهبها الناس لمجموعات الصور القديمة متعددة، لكن الغرض منها هو واحد: التذكر، أن يتذكر الناس اللحظات التي سكنوها بالأمس، وأن يذهبوا بمشاعرهم إليها، ليصقلوا معنى وجودهم، فالواحد هو امتداد ذاته بالأمس وامتداد جماعته، وامتداد مكانه الذي ترك غباره عليه..

صدى الذكريات متباين بين شخص وآخر، وصدى الصورة مقترن بأحوال الناظرين، ففي كل صورة أسرار، أو لنقل معان خبيئة، تكاد تسمع تنهدات الواحد منهم وهو يفتش عن سر مذاب في ماء الصورة، لأن الصورة توقظ الكثير من الصور الذهنية والأفكار في خارجها، فهذه الكبسولة المضغوطة من المشاعر قابلة للتشظي في ساعة التحديق.

في بعض المرات، تبدو الصورة الموسومة بالتراثية عقابًا للذين بالغوا في وصف يومياتهم عبر ومضات الكاميرا، فحتى الجمال الذي توهموه بالأمس في نشوة الضوء سينتهي إلى الإحساس بالبلاهة المؤجلة، عبثًا يحاول الواحد منهم وهو يفتش عن مناسبة الصورة وما فيها من تفاصيل، لكن لا شيء إلا الافتتان البكر بهذا الجهاز الذي يهبنا الخلود، لكنه أيضًا يذكرنا بهشاشة هذا الوجود، وبانصراف الوقت دون إنجاز الكثير الذي يعادله على مستوى الكم والقيمة، قد يبدو الواحد منا سعيدًا في داخل الإطار المستطيل، مفتونًا بوميض الضوء الخارج من الكاميرا يومها، ومتمردًا على قلق الحبس داخل فيلم لا يسمح بالنظر إلى النتائج بنحو فوري، بيد أنه يشعر في لحظة التحديق بعد سنوات من تصويرها بخسارة شيء ما، لعله الوقت، أو الشعور، أو التفاصيل التي تترك أثرًا يشبه الوخز في دواخلنا.

أمام طوفان الصور الجديد، تصبح ذكرياتنا على تماس مباشر مع حاضرنا، لأنها لحظة ممتدة في الصورة دون توقف، تراقبنا بإرادتنا، وترفع وفرة من الأشياء عن الغياب، حتى الحنين يصبح مضطربًا في هكذا لحظة، فلا الأمس أمس، ولا اليوم يوم مع سيلان الصورة، كلنا يركض صوب الانشغال بتكثيف الصور لنصنع من حياتنا متحفًا كبيرًا نحمله على ظهورنا، ونرسم به حدود علاقتنا بالأمس، علاقة خالية من العمق، لأننا تركنا مشاعرنا معلقة على أهداب الصورة، ورضينا من الذكريات مشجبًا طويلا به الكثير من الصور والقليل القليل من الشعور.