مقدم ملول، أما الشعر فقد كانت له فى الجاهلية مكانة عظيمة، إذ كان الشعر ألسنة القبائل في الدفاع عنها، والنيل من أعدائها، كما كان من شعرهم ما يعد قواعد للخلق وديواناً للفضائل. ودامت هذه المكانة للشعر الجاهلي عند المسلمين، ما ذكر بفضيلة أو حث على خير. فكان عمر بن الخطاب لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد بيت شعر.
وقد أوصى عبد الملك بن مروان مؤدب ولده بقوله: «.. وعلمهم الشعر مجدوا وينجدوا». ويقول معاوية لابنه:
«يا بني، اروِ الشعر وتخلق به. فلقد هممت يوم صفين بالفرار مرات، فما ردنى عن ذلك إلا قول ابن الإطنابة:
أبت لى همتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقدامي على المكروه نفسى
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مكارم صالحات
وأحمي بعد عن عرض صحيح
ثم نال التكسب بالشعر من قدر الشعراء، وهوى بمكانة الشعر نفسه، فكانت الخطابة أعلى قدرا منه، إذ إن المداحين من الشعراء عمدوا إلى إرضاء ممدوحيهم، فأضفوا عليهم صفات كمال ليست فيهم، وبالغوا فيما لهم من فضائل، وبرؤوهم مما فيهم من معايب، فزيفوا الحقائق طلبا للمنفعة الخاصة. وقد جاراهم أكثر النقاد، فأخذوا يعلمونهم وسائل نيل الحظوة عند ممدوحيهم، يقصدون إلى تلقينهم وسائل الإبداع والإغراب، لا إرشادهم إلى مدح الفضائل والإشادة بالأبطال. على أن من تنبه إلى خطر هذا الإسفاف فأشاد بالشعر مقدار ما فيه من قيم خلقية، فقسمه إلى أصناف أربعة: »فشعر هو خير كله: وذلك ما كان في باب الزهد والمواعظ الحسنة والمثل العائد على من تمثل به الخير وما أشبه ذلك، وشعر هو ظرف كله: وذلك القول فى الأوصاف والنعوت والتشبيه، وما يفتن به من المعاني والآداب، وشعر هو شر كله: وذلك هو الهجاء، وما تسرع به الشاعر إلى أعراض الناس، وشعر يتكسب به: وذلك أن يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيها، ويخاطب كل إنسان من حيث هو، يأتي إليه من جهة فهمه «ومن الشعراء من ترفع عن المدح، مثل جميل بن عبد الله بن معمر، وعمر بن أبي ربيعة، وعباس بن الأحنف، ضنا بكرامتهم ولأن المدح كان مزلقة إلى الكذب، وصناعة للتكسب والاستماحة يترفع عنها الكرام. ويقول يحيى بن نوفل الحميري - ولم يمدح أحدا قط – يذكر بلال بن بردة» والي البصرة في العهد الأموي وممدوح ذي الرمة «:
فلو كنت ممتدحا للنوال
فنى لا متدحت عليه بلالا
ولكني لست ممن يريــد
بمدح الرجال الكرام السؤالا
سيكفي الكريـــــم
ويقنع بالود منه منالا
وسبق أن قلنا إن المدح فى نشأته عند العرب لم يكن بقصد النوال، وإنما كان للشكر على صنيعة سلفت.
على أن من المادحين من مال إلى تحري الصدق، واتخذه له مذهباً، يقول حسان بن ثابت:
وإن أشعر بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
على المجالس، إن كيساً وإن حمقاً
على أن نقاد العرب ما لبثوا أن دعوا إلى شرف المعنى والإصابة فى الوصف، وطبقوا في ذلك ما سموه الإبداع والإغراب، فدعوا إلى أن يقصد الشاعر إلى صياغة الصفات العامة دون الصفات الخاصة، وإلى اختيار خير الصفات، بحيث يصور الممدوح أو المحبوب، أو يصف الموصوف على خير ما يؤلف من الصفات، دون مبالاة عما يتطلبه صدق الموقف، أو مراعاة الواقع، ولذا حكوا عن عمر أنه أثنى على زهير، لا لأنه كان يمدح هرم بن سنان بما كان فيه من صفات، بل لأنه كان ممتدحه بما يكون في الرجال.
1954*
*باحث وأكاديمي مصري «1917 - 1968».