لا يختلف اثنان حول أهمية التعليم والدور الذي يلعبه في تطور الدول والأمم، باعتباره المدخل الرئيس لتحقيق النهضة والتقدم، وحجر الزاوية لإنجاز التنمية، والركن الأساسي الذي تقوم عليه عمليات البناء المجتمعي، حيث لا قيمة لأي نهضة أو ازدهار اقتصادي إذا لم يصاحب ذلك تطور مماثل في العنصر البشري، لأنه المستهدف أساسًا بخطط التنمية. وليكون النجاح مستدامًا فإن الأجيال الجديدة ينبغي أن تمتلك القدرات التي تؤهلها للحفاظ على المكتسبات، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا بتطوير مخرجات التعليم.

لذلك فإن الدول التي تريد إنجاز برامجها التنموية الإستراتيجية تولي أهمية قصوى لتطوير نظامها التعليمي وزيادة جودة مخرجاته، وضمان تطوير المهارات الأساسية للطلاب وتنمية معارفهم.

هناك جدل ظل يدور منذ فترة طويلة دون التوصل إلى نتيجة محددة حول علاقة التعليم بالتوظيف، ففيما يدعو كثيرون إلى مواءمة مخرجات العملية التعليمية بالاحتياجات الفعلية لسوق العمل، لتحقيق المواءمة بين ما يدرسه طلاب الجامعات من مناهج وبين الواقع الحقيقي على الأرض، فإن آخرين يدعون إلى عدم ربط التعليم بالتوظيف، باعتبار العلم قيمة سامية وغاية في حد ذاتها.

مع احترام الرأيين، إلا أن الواقع الذي يعيشه مجتمعنا في الوقت الحاضر، والمتغيرات التي استجدت والتطورات التي لم تكن موجودة في السابق، والظواهر السالبة التي نعاني منها مثل تزايد نسبة البطالة وسط خريجي الجامعات، وما يسببه ذلك من مشكلات اجتماعية وأمنية كثيرة، فإن الحاجة تبدو ماسة إلى إعادة التفكير في القناعات، ومراجعة وترتيب الأولويات حسب الأهمية، بما يحقق في النهاية المصلحة العامة.

فانخفاض جودة المخرجات التعليمية أسهم في تزايد نسبة البطالة، وأصبحت معظم الجامعات تضخ سنويًا أعدادًا كبيرة من الخريجين الذين يعانون من حالة انفصام بين ما تعلموه ودرسوه في الجامعات من علوم ومعارف، وبين الحاجة الفعلية لسوق العمل، حيث يفتقرون إلى المهارات التي تمكنهم من المنافسة، لذلك يظلون في دائرة البحث المتواصل عن الوظائف ويقابلهم كثير من أصحاب العمل بالعزوف.

لتعديل هذه الصورة وإصلاح الأوضاع فإننا نحتاج إلى مراجعة شاملة للعملية التعليمية، بحيث يزداد التركيز على تعزيز المهارات والتوجه نحو ترقية التعليم المهني وتوفير التدريب العملي وجعله أحد المواد الأساسية التي لا بد من النجاح فيها، والاهتمام بتدريس اللغات الحية مثل الإنجليزية والفرنسية منذ سنوات الدراسة الأولى لأنها مفتاح التعرف على المستجدات التي تطرأ بصورة شبه يومية على حياتنا، لا سيما المهارات الرقمية.

ومع التسليم بأهمية تدريس المواد النظرية والتثقيفية إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب المواد العملية، على أن يتم التوسع فيها لمن يريد التخصص فقط، فطالب الهندسة ليس في حاجة للتعمق في دراسة التاريخ، ومن يريد دراسة الطب أو الصيدلة لا ينبغي أن يقضي ساعات طويلة في دراسة الجغرافيا ليكتسب معلومات ربما لا تصادفه في بقية حياته.

خلاصة القول إننا أحوج ما نكون إلى وضع مناهج حديثة، تراعي متطلبات العصر، وتساير ما استجد من ابتكارات واختراعات، وألا يبدأ الاهتمام بذلك عند مرحلة التعليم الجامعي، بل منذ سنين الدراسة الأولى، كي نرفع من وعي التلاميذ بقيمة العمل، وأن يتدرج ذلك الاهتمام في شكل جرعات بحسب تطور سن الطالب ودرجة وعيه.

إذا أحسنا القيام بتلك المهمة عبر متخصصين ملمين بسوق العمل ويدركون تفاصيله ويفهمون احتياجاته، فإننا نكون قد قطعنا أولى الخطوات نحو تمكين أبنائنا ومنحهم القدرة على منافسة العمالة الوافدة، وتوطين الوظائف لتوفير عشرات المليارات التي يتم تحويلها سنويًا خارج المملكة، والتي يمكن إعادة ضخها في أسواقنا لزيادة القدرة الشرائية، وإيجاد المزيد من فرص التوظيف.