كانت السعودية سباقة في مجال الإعلام ورائدة في البدايات، فمنذ أن أطلق القمر الصناعي عرب سات في 1985 بدأت بعض الدول في نقل بث تليفزيوناتها الحكومية عليه، لكن السعودية أحدثت عدة نقلات غير مسبوقة، فبثت قناة MBC عام 1991، كأول محطة تليفزيونية فضائية خاصة، وبدأت شبكة ART البث عام 1993، وقامت أوربت بإطلاق BBC العربية وتجهيز كوادرها وتدريبها عام 1994، وصدرت إيلاف كأول صحيفة رقمية في 2001، ثم بدأت الأمور في التراجع، فأغلقت BBC أوربت في 1996، وباعت ART قنواتها الرياضية نتيجة الهجوم عليها آنذاك، وحجبت إيلاف، وبدأنا نعيش ازدواجية بسبب التيار المتشدد الذي بدأ محتسبوه في ترصد أطباق الاستقبال الفضائي من أسطح المنازل إلى درجة قيام بعض متطرفيه بقنص جهاز LNB في الدش بواسطة بنادق الساكتون على الرغم من أنها تباع علنا في المحلات لكن إلى أن انتهى دورها لم يجرؤ بائع على إصدار فاتورة البيع باسم محله.

تطور الأمر أكثر عندما دخل جوال الباندا بالكاميرا في 2003، فكانت تفسح من الجمارك وتباع في المحلات ولكنها تحرّم وتجرّم وتصادر من أيدي الناس عند نقاط التفتيش، وفي الوقت الذي كنا نحرم ونصادر جوال الباندا كان ستيف جوبز يعمل على جهاز الآيفون الذي أطلقه في 2007، وغيّر بعدها حياة العالم بأسره.

لم تنته الأمور عند هذا الحد، فنحن دائمًا نرى أننا الأكثر وعيًا والأفضل تدبيرًا ممن سبقونا، وننظر إلى ما عملوه باستخفاف وربما بسخرية بينما نعيد نحن إنتاج ما فعلوه بصورة أخرى، فعندما بدأ فيسبوك وتويتر بالانتشار عندنا في 2011 واندفع إليها الشباب قامت هجمة ضد من كانوا ينتجون محتوى فيه، مرة بداعي الأخلاق ومرة بالمستوى الهابط والإسفاف ومرة بالحرية غير المسؤولة ومرة بالمبزرة، وكأنها من خوارم المروءة، ثم انتقل الكلام نفسه إلى إنستجرام بشكل أشد لأن البنات ظهرن فيه أكثر، وبعده قيل الكلام نفسه عن السناب مع هجرة الشباب إليه في 2016، والآن يتكرر الهجوم نفسه على التك توك والسؤال هل هو حلال أم حرام؟

عدا هذا السجال البيزنطي لم نشاهد أي مشاريع إعلامية ضخمة في القطاع العام والخاص بمستوى المبادرات العظيمة في التسعينيات، وتُرك الأمر (للدرعى ترعى)، وجاءت في هذا الفراغ شركات الإعلان الأجنبية لتدير حسابات شبابنا وبناتنا وسفهائنا وتمتلك الامتياز الإعلاني، وانجرفت وراءهم كثير من المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية، فأصبحت تلك الشركات تتحكم في المحتوى ويوجهونه ويفرضون كل شيء بما في ذلك طريقة الظهور واللبس والكلام لأنهم اليد العليا التي تغدق عليهم الأموال، وأصبحوا مؤثرين على الأجيال من الطفولة واليفاعة والشباب وحتى الكهولة، ونحن لا نملك إلا الهجائيات وأسالبيب الوعظ التقليدية والخروج بمظهر الناصح المشفق، وأقصد بنحن كل القطاع الإعلامي من مسؤولين وممارسين وأكاديميين ومنظرين ومخططين ومستشرفين، في الوقت الذي يتربع على قائمة الأكثر تأثيرًا ونفوذًا في العالم كل سنة زوكربيرج ولاري بايج وسيرجي برين ومايكل بلومبرج وزهانج يمينج وروبرت مردوخ الذي يرى أن الأخبار تسيَّس وتسوَّق بشكل مؤثر ومربح مهما كان الثمن الأخلاقي، ويدفع فيه إيلون ماسك 165 مليار ريال لشراء تويتر.

وفي الوقت الذي استغرقناه في جدل عقيم حول الإعلام الورقي أو الإلكتروني؟ التقليدي أو وسائل التواصل؟ إعلام الصوت أو الصورة؟ المحتوى الهابط أو رصانة النخبة؟ كان العالم قد تشكل وانتهى في مجتمع الشبكة، وهو تشكيل اجتماعي منظم من مجموعات ومنظمات ومجتمعات جماهيرية لكل فرد منها علاقة جماعية في الفضاء الرقمي عبر تطبيقات الجوال فقط بما فيها الألعاب، وتداخلت فيه كل وسائل الإعلام والاتصال المقروءة والمسموعة والمرئية والتفاعلية، وأصبحت جميع الأطراف من أفراد ومراكز ضغط ومؤسسات حكومية وغير حكومية ورجال أعمال وسياسيين في السلطة أو المعارضة تسعى للتأثير في الإعلام بنفس الوقت الذي يؤثر الإعلام في كل هذه الأطراف، إذ تتلاعب الميديا اليوم في الحياة السياسية بالوقت نفسه الذي تتلاعب فيه السياسة بالميديا.

كانت أكبر مشكلة واجهت الإعلام في السنوات الماضية هي الأخبار الكاذبة Fake news لأن تطبيقات الشبكة ومن ضمنها التواصل الاجتماعي كونت سيلا جارفا من المعلومات، وأصبح مجتمع التطبيقات لا يعنيه موضوع الحقيقة والكذب، وإنما يهمه استهلاك المحتوى للمتعة وقضاء الوقت، بصرف النظر عن قيمته ومستواه، وأصبح الناس يتشكلون وفق المياه التي تجرفهم ولا يستطيعون معها القدرة على التفكير والتدقيق أو لا يملكون الوقت أو حتى لا يرغبون ولا يعنيهم، وبذلك يصبح الانطباع الأول هو الانطباع الوحيد The 1st impression is the only imression وقال الشاعر الجاهلي:

قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا​​

فما اعتذارك من قول إذا قيلا

لكن حتى موضوع الأخبار الكاذبة أصبح جزءًا هامشيًا من مشكلة أعظم.

إن أمريكا التي قدمت نفسها كأكبر مصدر للديمقراطية أصبح المحللون يرونها أكبر مصدر للأدوات التي تقوض الديمقراطية بطريقة غير مباشرة من خلال التقدم التكنولوجي في الذكاء الاصطناعي، حيث سيكون هذا العام نقطة تحول في دور التكنولوجيا التخريبية في المجتمع، وسيقوم شكل جديد من أشكال الذكاء الاصطناعي التوليفي بإنشاء صور ومقاطع فيديو ونصوص واقعية موجهة، ومع التقدم في برامج التزييف الدقيق والتعرف على الوجه والتركيب الصوتي، ومع تطبيقات سهلة الاستخدام مثل ChatGPT و Stable Diffusion يستطيع أي شخص يتمتع بالحد الأدنى من الذكاء التكنولوجي من تسخير الذكاء الاصطناعي للتلاعب بالناس، وزرع الفوضى السياسية والاجتماعية بسبب اختفاء العوائق التي تحول دون إنشاء المحتوى، مما يستحيل على الناس التمييز بشكل موثوق بين الكذب والحقيقة، ويتحول الكذب إلى نوع من الخيال المقبول، فتزدهر المعلومات المضللة وتتآكل الثقة التي هي الأساس الهش الحالي للتماسك الاجتماعي والتجارة والعلاقة الأفقية بين الناس والرأسية مع الحكومات، وسيكون انتشارها في روسيا أكثر من كورونا لأنها تخضع لشركات ربحية عابرة للحدود، واستخدامات جميع الناس دون تنظيم، وممارسات تلقائية وعشوائية لا يمكن ضبطها أو تقنينها مهما حاولت التشريعات الوطنية أن تعمل، لأن مجتمع الشبكة سيتجاوز الحدود الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وقد بدأت إرهاصات ذلك في الانتخابات الأمريكية والبرازيلية والمجرية، وكان نموذج ترمب وقصة التلاعب بالانتخابات وطرده من مجتمع الشبكة مؤشرًا على ما سيحدث، وليس مثالًا على ما يحدث فعليًا، والمؤشرات كثيرة وعديدة بدأت في الظهور.

عند ذلك يتبادر السؤال البدهي: هل نحن مستعدون للتعامل مع القادم؟

وليس للدخول لأننا دخلنا فيه فعلا، الأمر الجيد أن عالمنا العربي زاد اهتمامه بالذكاء الاصطناعي والميتافيرس وإعلام التوجيه والتأثير، والأمر السيء هو أننا مازلنا نتعامل معه بعقلية جوال الباندا، فالمشرعون والمخططون ما زالوا يبنون إستراتيجياتهم على ما قبل 2023، والمسافة بين إستراتيجياتهم والقادم كالمسافة بين الخطط الخمسية ورؤية 2030، والأكاديميون يجملون مناهجهم ومحاضراتهم وكتبهم بقعقعة نظرية ماكلوهان المتوفى 1980، وبقشور الذكاء الاصطناعي والميتافيرس، دون أن تدخل بنية تفكير الطالب والباحث، والممارسون مشغولون بأزماتهم المالية والجدل البيزنطي حول إعلامهم هل هو تقليدي أو متجدد، ورجال الأعمال يجاهدون للخروج من آثار كوفيد والتضخم والركود الاقتصادي، وأنا أردد قول زهير الجاهلي:

ما أرانا نقول إلا معارًا​

أو معادًا من لفظنا مكرورًا.