لعل العنوان يتجاوز ما هو معروف وسائد عن أنماط الإدارة، ولكن - وبكل أسف نقولها - فعلاً توجد إدارة للتفاهة الرقمية.

إدارة التفاهة الرقمية هي مجموعة من عمليات التخطيط والتنظيم والتنسيق والتوجيه والرقابة، لتحقيق أهداف نشر التفاهة التي تتضمن المحتوى الهابط الذي لا يحوي أهدافاً تستحق أن يبذل من أجلها الجهد والمال والوقت، بل هي جملة من المشاهد التي تتنوع بين العرض الجسدي، أو استخدام أساليب الإضحاك الفجة، أو نشر يوميات تافهة لا يستفيد من شاهدها أي فائدة سوى الغثيان الذي يشعر به بعد رؤية تلك النماذج من البشر على وسائل التواصل الاجتماعي.

ولا شك أن ظهور عديد من المشاهير والمشهورات في تلك الوسائل، وتحقيقهم مكاسب هائلة تدل على أن هناك عمليات إدارية محترفة للمحتوى الرقمي التافه، لذا فإن المسألة ليست بالبساطة التي يتصورها كثيرون، فهناك فرق عمل ومديرو أعمال وفنيون ومخرجو محتوى يعملون ليل نهار لينتجوا هذا الكم الهائل من المحتوى الرقمي المتنوع، والبث المباشر ليوميات أولئك المشاهير أو من يسمون أنفسهم رواد التواصل، وفي الحقيقة أنهم اللوحة التي تظهر في النهاية، حيث إن هناك من يوجههم نحو كسب مزيد من المتابعين من صغار السن الذين يغدقون عليهم مزيدا من الهدايا الرقمية من جيوب آبائهم، الذين يعتقدون أنهم يصرفون تلك الأموال في ما ينفعهم. حيث إنه من المعلوم أن أحد التطبيقات المشهورة يطبق نظام الهدايا بشكل فعال جداً ويحقق مليارات الدولارات سنوياً، ومن خلاله يمكن للمشتركين منح الهدايا الرقمية التي تتحول لمبالغ مالية لأحبائهم المشاهير، ويحصل المشهور على نسبة جيدة من الهدية، وبهذا يزيد المشهور من نشاطه التافه ليحصل على المزيد والمزيد من المال، من خلال نشر مزيد من المحتوى الذي يُثقل الفضاء المعلوماتي بكثير من المعلومات والتصرفات والأخلاق السيئة، ومن ثم يعالج المصلحون والتربويون والإعلاميون ما نجم عن نشر ذلك المحتوى السيئ.

إدارة التفاهة الرقمية هي نتاج نظرية (الإعلام الليبرالي) الذي تمادى في منح الحرية لوسائل الإعلام عموماً، ولوسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً بدعوى الحرية، ومنح الفرصة للتعبير، ولكن هذه هي النتيجة التي نشاهدها في الفضاء الرقمي العالمي!

ويكمن الحل في الجهود الاجتماعية الشاملة لمواجهة هذا الغثاء المعلوماتي الكبير، الذي يغزو أبناءنا بشكل يومي، ويُصعِّب المهمة على التربويين والآباء في ضبط أبنائهم وتعديل سلوكهم وتوجيههم نحو ما ينفعهم، ويحقق أهداف الوطن من خلالهم.

نحن بحاجة إلى مزيد من التعاون بين الإعلاميين والتربويين وعلماء الاجتماع، لوضع حلول عملية مبنية على مناهج البحث الاجتماعي والنفسي، حتى يمكن الغوص في ظاهرة التفاهة الرقمية وعملياتها الإدارية، ومعرفة ما يدور في كواليس وسائل التواصل، والوصول إلى الأسباب الخفية وراء رواج التفاهة الرقمية، ومن ثم اختبار هذه الحلول وبطريقة عملية، ونشرها لكل المهتمين، حتى يمكن اجتثاث تلك التفاهة أو التخفيف التدريجي من آثارها وإزالتها في النهاية.

إنهم يديرون التفاهة الرقمية، ونحن بحاجة إلى إدارة لاجتثاثها أيضاً.