1

زجّ الزمان بحمق إن الزمان زبون

لا تكذبنّ بعقل ما العقل إلا الجنون

ذلك ما يقوله أبو الفتح الإسكندري، فالزمان لم يعد كالزمان عند المتنبي المتوفى قبل ولادة بديع الزمان الهمذاني بأربع سنوات، يشكو المتنبي من أن الناس ماتوا مغبونين من الزمان، يعطي الزمان ثم يأخذ ما أعطاه، وهناك من يعين الزمان من البشر، فإذا ابتدر الزمان الإساءة بما جُبل عليه «كلما أنبت الزمان قناة» هرع من يعينه على ذلك «ركب المرء في القناة سنانا».

كان المتنبي جادًا، فجعل الزمان يبيع ويشتري البشر، يكرمهم ويهينهم، يعطيهم ويأخذ منهم، لكن بديع الزمان الهمذاني على لسان أبي الفتح قلب ذلك رأسًا على عقب، فالزمان ليس بائعًا للبشر، بل الزمان زبون عند البشر، تكمن مشكلة المتنبي في أنه عاقل فتصور الزمان من جهة العقل، والحل عند بديع الزمان الهمذاني هو أن تتصور الزمان من جهة الحمق والجنون.

بحسب أبي الفتح الإسكندري يمكنك أن تكذب، لكنك لو استخدمت عقلك في الكذب، فستقع في مشكلة أكبر، وهي كيف تبرهن أنك لا تكذب، يكفي أن يشم المستمع رائحة الكذب فيما تقول حتى تفقد لعبتك معناها، لا شيء أصعب من أن تكون عاقلا صادقًا؛ لأن أي نشاز في كلامك سيرتد عليك، الأسهل أن تكون أحمق كاذبًا، فيكون كلامك كله كذبًا من أوله إلى آخره، عندئذ سيستمعون إليك.

هذه هي لعبة أبي الفتح؛ أي أن يكون كلامه كله كذب من أوله إلى آخره، في مقامة المكفوفية مثلا التي تضمنت هذين البيتين، كل ما تحدث به أبو الفتح كذب من أوله إلى آخره، لم يكن غنيًا ليصبح فقيرًا، ولا متزوجًا لكي يكربه المهر، ولم يكن يسكن قصرًا ليسكن بعد نكبته بيتًا صغيرًا، لكنه تحدث بذلك كما لو أنه حقيقة حتى إن الناس تعاطفوا معه وتصدقوا عليه.

يعرف أبو الفتح أن في كل حديث صوت الحروف واحد، وصوت الكلمات واحد، فكيف للآخرين أن يعرفوا الحقيقة، بسبب لا كمال اللغة هناك على الدوام شيء مشين وهو عرض الحقيقة، وأن عدو الحقيقة الأكبر هو الكلمات، لذلك لماذا على أبي الفتح الواثق من أن الكلمات كذلك أن يفكر بعقله، فقط إذا أردت أن تكذب فلا تكذب مستخدمًا عقلك، بل مستخدمًا جنونك، ولكي نتلافى سوء الفهم؛ فالبيتان لا يهدفان إلى الانتقاص من العقل، ولا من العقلانية، ويجب أن نفرق بين الجد وبين الهزل، فأبو الفتح يكتفي باستخدام العقل ليعبث به، ويحوله من الجاد إلى المضحك.

2

في أحد المشاهد تطلب إحدى شخصيات رواية «الأبله لديستويفسكي» من الآخرين أن يسردوا أسوأ فعل ارتكبوه في حياتهم، فيصطدم الجميع بالكذب، وبسؤال مقلق هو كيف يبرهنون للآخرين على أنهم لا يكذبون، ثم من الذي يستطيع ألا يكذب، وكيف أن كل واحد منهم يجب أن يكذب، يحتل الكذب المركز في هذا المشهد البديع، فهو الميزة التي يمتاز بها الإنسان عن غيره من الكائنات، فنحن لا نعرف حيوانًا أو طيرًا أو نباتًا يكذب، وبالتالي فأنا إنسان لأنني أكذب، ومن يدعي أنه لا يكذب يعاني من هذه الكذبة على الأقل.

فطالما سلمنا بأن البشر كائنات ناطقة، فيصح أن نعرفهم بأنهم كائنات كاذبة، بسبب لا كمال اللغة هناك على الدوام شيء ناقص هو الصدق، لأن عدم صدق اللغة جزء من طبيعتها، فالكلمات التي نزعم أننا نصدق بها هي ذاتها الكلمات التي نكذب بها، وفي كل موقف صدق أو كذب يكون تركيب اللغة واحدًا، وأصوات الكلمات لا يتغير، وحتى حينما نكتب، فلون الحبر واحد صدقًا أم كذبًا، وأشكال الكلمات والحروف لا تختلف بين أن تكون صادقة أو كاذبة، لأننا كائنات لغوية فلا يمكن نقل صدقنا إلى الآخرين، ولو تحدثنا طيلة حياتنا، أو ألفنا كتبًا كاملة وظللنا نشرحها طيلة وجودنا، ما نعتبره صادقًا لن يخرج بأي حال من الأحوال، وسيظل هناك في أذهاننا، وسنموت قبل أن نكون صادقين فيما نكتبه أو نتحدث به، وربما كان ذلك الذي لم نستطع إخراجه هو ما وجدنا من أجله، ما يعيشه شخص منا، لا يمكن نقله من حيث هو عيش كامل، عيشي في الحياة لا يمكن أن أنقله مثلما هو، هناك شيء ما يعبر بيننا وبين الآخرين، ليس هذا الشيء هو عيشنا كما عشناه، وكل ذلك بسبب اللغة.

3

يحدث الكذب بيننا يوميًا، ومن ذا الذي لا يكذب منا؟ فكل واحد منا لا بد له من أن يكذب، لأن لعبة وجودية تحدث لحظة بلحظة بين ذاكرتنا ونسياننا، ذاكرتنا تحفظ، ونسياننا يمحو، وفي النهاية لابد للنسيان من أن يكسب لأنه شرط وجودنا البشري، يكمن الكذب في العلاقة بين حياتنا التي تعج بالأحداث والعواطف والأفكار وبين اللغة، أفكار وعواطف كالألغاز لا توصف أو تصنف بأي شكل أو وسيلة، إننا نتحدث عن علاقتنا بالآخرين، وعن أفكارنا عنهم متناسين مأزق اللغة، وإذا كنا لا نملك إلا اللغة لكي نفهم بعضنا بعضًا، فهي في الوقت ذاته تزور علاقاتنا وأفكارنا؛ لأنها ليست أداة تعبير مطلقة.

نذهب إلى المدرسة لكي نتعلم كيف نكذب ببلاغة، وكيف نكتب كذبًا بصورة مؤثرة، وفيما نحن نكبر نحمل معنى ذكرى لكي نكذب؛ لأن الكذب هو أفضل الموجود ولا شيء بيدنا حيال ذلك، نحن مخلوقات ضعيفة أمام أنفسنا، وأمام الآخرين، وما نستطيع فعله هو أن نكذب ونكذب من غير أن نجعل الكذب يخبو، نكذب لنخدع أحدًا ما نخاف منه، أو لنتخلص من خطر محدق، قد نعرف أو لا نعرف، فما نملكه آخر المطاف هو كذبنا الذي نسجناه، وكل واحد منا يختار مستوى كذبته، وحينما نصر على الصدق، فنحن ننشغل ونتلهف إلى معرفة ما لن نتمكن من معرفته على الإطلاق.