ارتبط عصر التنوير في الأوساط الثقافية العربية بالعقل وتحريره، وبكل ما هو تقدمي وحديث، عصر العقل المتحرر من أغلال التراث وتقاليده البالية. العصر الذي قدم المفكرين والفلاسفة التنويريين، وعرض معاركهم البطولية ضد قوى الظلام وأعداء الإنسانية في سبيل إصلاح اللاهوت والممارسات الدينية والتعليم والقانون، كي يصبح عالمنا أكثر تسامحا وانفتاحا وأقل ارتباطا بالتقاليد وأفضل تكيفا مع الحداثة. باختصار لقد عُرض عصر التنوير الأوروبي بصورة زاهية متخيلة أقرب للعالم الفنتازي الذي تتصارع فيه قوى الخير وسلاحها العقل المتحرر ضد قوى الشر والظلام وسلاحها التراث والتقاليد.

كانت قصص عصر التنوير ملهمة للمثقف العربي، وانعكست على خياله وتوجهاته ومواقفه، فأراد أن ينقل معركة التنوير لساحته ويلعب دور الفارس الهمام المسكون بهاجس التحرر من أغلال الماضي السحيق.

إن قراءتنا للتاريخ الأوروبي كانت غير ناقدة، غارقة في الخيال تحاصرها الصور النمطية المتخيلة، وتكبلها الشعارات الرنانة، وهذا ما يجعل أطروحات النقد الثقافي ونقد الموروث في أوساطنا الثقافية غير واقعية وغير موضوعية، وتعكس طفولة فكرية امتدت حتى للأوساط الأكاديمية التي يفترض أنها تمتلك أدوات نقدية جادة في دراستها لتاريخ الشعوب وتطور أفكار الأمم.

التنوير بالنسبة للمثقف الأوروبي عصر ملغز مبهم غير واضح المعالم، عصر لا يمكن تعريفه أو تتبع تاريخ نشأته وتدرجه التطوري، يتناوله بالريبة والشك، ويكفي أن إحدى نتائجه تطور أفكار «العرق» وأن بعض البشر متفوقون عرقيا على بقية الأجناس. فعصر التنوير وإن كان يحمل عنوانا عريضا هو «العقل» والثقة به ونقد الموروث وقراءته قراءة جديدة، جاء تنصيب العقل ملكا متوجا قاد المجتمعات لأشكال جديدة وغير معهودة من العنف المنظم، فكثير من المفكرين الغربيين يعتقدون أن حادثة الهولوكست الشنيعة كانت نتيجة طبيعية لقيم التنوير والتخطيط المفرط في عقلانيته للمجتمع والأفراد. فهذه الحادثة المروعة لم تكن حدثا غريبا وشاذا أو فعلا مفاجئا غير متوقع. فقد كان القتل البارد نتيجة طبيعية لإزاحة المشاعر والعواطف والتعامل مع الإنسان بعقلانية مفرطة، فقد كشفت لنا الهولوكست عن الوجه الوحشي لقيم التنوير الأوروبي، فقد طبقت النازية من خلالها الحداثة العلمية على أكمل وجه.

في كتاب «أصول العنف» عبر جون دوكر عن تلك العلاقة الفكرية الكامنة بين التنوير والهولوكست بقوله: «اتهم التنوير في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة بتهيئته الأسس المفهومية للهولوكست وتعزيزها بسلطته... إذ يخبرنا زغمونت باومان بأنه اعتقد مرة أن رعب الهولوكست ولا إنسانيته ما هو إلا جنون عابر نما مثل خلايا سرطانية في جسم الحضارة والحداثة. يأمل باومان أن يكون كتابه مساهمة في الإدراك الذاتي والنقد الذاتي الغربي، بأن الحداثة ذاتها، في ممارستها العادية لعقلانية غير شخصية وخالية من العاطفة،وكفاءتها البيروقراطية وهندستها الاجتماعية، قد مكنت من حدوث الهولوكست وبينت عن نفسها فيه».

التخطيط العلمي للمجتمع المفرط في عقلانيته يقف وراء وقوع الهولوكست، فهذه الحادثة لم تخرج من العدم أو بشكل غير مقصود، فقد كانت متجذرة بعمق في تقاليد الحداثة وقيم التنوير الأوروبي. بل تتجلى في العمل البيروقراطي المتجرد من الصفات الإنسانية حينما تختزل الأهداف «الضحايا» في مجرد مجموعة من المقاييس الكمية. وما تعرض له اليهود في الهولوكست تكرر مع الهنود الحمر في القارة الأمريكية، وفي الإبادة الثقافية للسكان الأصليين في كندا، وكلها أعمال قامت على أسس عنصرية تصنف الأعراق البشرية وفق ترتيبها في الطبيعة وكيف أثرت البيئة فيها. لذلك لم يكن حدوث مثل هذه الأعمال الوحشية الشاملة تخليا عن قيم التنوير ومبادئ الحداثة بل تحقيقا لها.