بدأ مفهوم رأس المال الفكري في المؤسسات الصناعية، والتجارية، ثم انتقل تدريجيًا إلى المؤسسات الخدمية، ومنها إلى مؤسسات التعليم العالي، كمحاولة للاستفادة من الأصول الفكرية، التي تمتلكها هذه المؤسسات، مما يؤدي إلى تعظيم قدراتها التنافسية، وتدعيم مكانتها بين المؤسسات المماثلة، ورأس المال الفكري يقوم على اعتبار أن العنصر البشري هو الأساس في تكوين الأصول الفكرية، ومن خلال هذا العنصر البشري تستطيع المؤسسة أن تتحكم في مصادر قدرتها التنافسية، والمتمثلة بالأساس في المعرفة التي يتوافر عليها أعضاؤها، وهذا بطبيعة الحال ينسحب على المجتمعات والدول.

وأركان رأس المال الفكري ثلاثة: معرفة وخبرة ومنجز، ومتى ما توفرت هذه الثلاثة في شخص ما أصبح ثروة وطنية، ينبغي الحفاظ عليها والاستفادة منها، بل ربما تحول هذا الشخص إلى محفظة استثمارية فكرية كبرى، بسبب توافره على قدرات معرفية وخبراتية هائلة، وإنجازات مرموقة، ويأتي الأمر الملكي الكريم في 2019، والقاضي بفتح باب تجنيس الكفاءات من كل أنحاء العالم بالجنسية السعودية، ليصب في تدعيم رأس المال الفكري السعودي.

وسوف أتحدث في بعض المقالات القادمة، عن ثلاثٍ من أربعٍ من المحافظ الاستثمارية الكبرى لرأس المال الفكري السعودي، أحدهم هو الدكتور سعد الصويان، والآخر هو رضوان السيد - مناط حديثي في هذا المقال- وثالثهم الدكتور عثمان الصيني، والرابع الدكتور محمد العيسى، والنماذج السعودية كثيرة جدًا، ولعلي بين الفينة والأخرى أكتب عن أحدهم، بغرض الإفصاح عن بعض ما في قلوبنا ومشاعرنا لهم من تقدير واحترام وحب، وحتى أضع خطوة في طريق طويل من تقدير الأعلام في حياتهم، ليقرؤوا مدى ما حققه جدهم واجتهادهم في خدمة وطنهم، وخدمة العلم والمعرفة في مختلف حقولهما، وهذا أقل الواجب.

ولعلي أبدأ حديثي عن العالم والمحقق والمدقق الدكتور رضوان السيد، بسؤال كيف عرفته؟!

لقد عرفت الدكتور رضوان أولًا من تحقيقاته، ثم من مجلة الاجتهاد، ثم من مؤلفاته، ومن صحيفة الشرق الأوسط، وقد حدثني عنه كثيرًا الراحل الدكتور مصطفى بكري السيد، وهو صديق من أصدقاء الدكتور رضوان السيد، وليس من أقاربه كما قد يوهم تشابه الاسم الأخير لهما، غير أن ما علق في ذهني من أحاديثه الماتعة، تلك القصة التي تشي بالكثير عن طبع وطبيعة الدكتور رضوان السيد -حفظه الله- فذكر الدكتور مصطفى:

«أنه زامل الدكتور رضوان إبَّان دراسته في جامعة الأزهر العريقة، هو في كلية اللغة العربية، ورضوان طالب في قسم العقيدة والفلسفة في كلية أصول الدين، ويقول -رحمه الله-: كنا في شرخ الشباب ونحب التسلي واللهو البريء، ونهوى الكسل، أما رضوان السيد، فكان جادًا مجدًا ذكيًا حد الألمعية، وكان الرجل لا يخلد إلى النوم، حتى يراجع دروسه كاملة، ليس من المقررات الدراسية فحسب، بل من خارج الكتب المقررة، فكان في التفسير مثلًا يراجع في تفسير الآية الواحدة أكثر من مائة تفسير، في ذات اليوم الذي أخذ درسها فيه»، وحديث الدكتور مصطفى يتضح جليًا في سيرة الدكتور رضوان ومسيرته، فالجدية والحزم مع النفس، وعدم التهاون بالوقت هي سمة من سمات الدكتور رضوان، وكان من آثار هذه الإيجابية أن سلك مسلكين في التخصص المعرفي والعلمي، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مسلك التخصص الأكاديمي، ومسلك التخصص الثقافي، والأخير هو ما أدعو دومًا أن يقيَّم عليه المثقف والمفكر، فالتخصصات الأكاديمية في الطب والهندسة وغيرها، قد تحرمنا من فلاسفة ومفكرين كبار، لا أعني أولئك المفكرين الذين تجاوز فكرهم وعلمهم حدود التخصص من أمثال الدكتور رضوان، وإنما أعني من هم دون ذلك ببضع درجات.

يقول الدكتور رضوان: «أثناء التحضير للدكتوراة في ألمانيا بدأتُ باستخدام نوعين من المصادر والمراجع، النوع الأول: هو الخاص بالتخصص، ومصادره حاضرة في مكتبة الجامعة، أما النوع الثاني: فيدخل في باب الثقافة»، وهنا كأن الدكتور رضوان يشير إلى المنهجية الصلبة والأساس في بحثه العلمي ومن بداياته الأولى، وهي إخراج النتائج المعرفية عبر مزيج تخصصي وآخر ثقافي، الأول يشكل صلب المعلومة البحثية وهيكلها وبناءها الجسماني، والثاني يشكل روحها ودمها الذي يجري في شريان وأوردة الجسد، وهذا سر تميز الدكتور رضوان السيد عن كل الكتاب والباحثين في حقول الفكر الإسلامي، ولذلك يقول الدكتور رضوان:

«تخصصي في دراسات الأديان والدراسات الإسلامية، لكنني من عشاق التاريخ والسيسيولوجيا والفلسفة القديمة والحديثة، وفي هذه المجالات اجتمعت لديّ آلاف الكتب، التي لا تدخل في التخصص؛ بل في الثقافة، ومع الكتب الكبيرة تظهر المشروعات العلمية الكبيرة».

وللدكتور رضوان نظرة متميزة لما عاشه من مراحل عمرية، حيث يرى أنه في كل فترة يتعلم الجديد والمتقدم، ويتعرف على زملاء جدد، ويشتري كتباً جديدة، فالكتاب والمكتبة ملازمان للدكتور رضوان كملازمة أنفاسه له، وحينما قال: «السيرة مكتبة، والمكتبة سيرة» كان يصف نفسه، وإن كان هو بذاته مكتبة تمشي على رجلين، فالكتاب الجديد يهديه لكتب أخرى، وهكذا دورة حياة رضوان السيد، ليست تنقلًا من مكان إلى مكان، بل من كتب إلى كتب.

وصفه الدكتور جابر عصفور -رحمه الله-:

«بأنه أعظم علماء التراث العربي الأحياء»، ووصفه الدكتور نبيل عبد الفتاح: «بأنه أكبر المفكرين العرب في العقود الثلاثة الأخيرة»، أما هو فيصف نفسه ويؤرخ لحياته بالجديد من العلم والكتب والناس، ويقول: «لديَّ سيرة ومسيرة علمية تبلغ حوالي الخمسين عاماً، في البحث والتأليف والتدريس. والسيَر لا تتكرر، وكذلك لا تتكرر التجارب».

ومن أهم مشروعات الدكتور رضوان العلمية: التاريخ السياسي للإسلام، والتفكير بالدولة في مجالنا الحضاري، والتاريخ الثقافي للحضارة العربية الإسلامية، والإصلاح الإسلامي، وتاريخ الاستشراق الألماني، وإعادة كتابة السيرة النبوية، وتاريخ التفسير ومذاهبه.

أخيرًا، يقول الدكتور رضوان السيد: «لا سبيل للخروج من المأزق بالمعنى التاريخي إلا بالانخراط في هذا العالم، توصلاً لإزالة انكماشنا الحضاري والثقافي والمضي في التحول إلى جهات فاعلة في ثقافة العالم ومصائره»، وهذا الفكر هو عين ما تحتاجه رؤية السعودية 2030، عبر مفكرين يقودون العملية الفكرية والمعرفية للرؤية المباركة، بمثل هذا الحس الذي يستلهم سماحة الإسلام، وريادة العرب.