تبلي السعودية بلاء حسناً في إدارة دفة أسواق الطاقة العالمية وهي أكبر المصدّرين للنفط الخام في العالم. خلال الأسبوعين الماضيين وبشكل متصل لم تفتأ السعودية شرقاً وغرباً من وضع اللمسات الأخيرة على شكل مستقبل الطاقة في العالم، على الأقل للعقود الأربعة القادمة. فبداية من هذا الأسبوع قفزت أسعار النفط بأكثر من 5 دولارات للبرميل بعد 24 ساعة فقط من قرار «أوبك+» خفض الإنتاج بأكثر من مليون برميل بداية مايو لتحقق أفضل أداء منذ نهاية الصيف الماضي. وعلى الرغم من أن التأثير المباشر للقرار لم يدخل حيّز التنفيذ حتى الآن، فإن أسواق الطاقة تأثرت بالقرار الجماعي لـ«أوبك+».

السعودية التي تقود التحالف الذي يضم روسيا الاتحادية، تؤكد أهمية ضبط استقرار الأسواق لمصلحة العالم، في حين يرى خبراء المال أن هذا القرار سوف يؤدي إلى رفع أسعار الفائدة في البنوك ومعدلات التضخم على المدى القصير، إلا أنه حتماً سيمنح أهمية كبيرة لمصلحة وضوح الرؤى الاقتصادية على المدى الطويل ما يعزز من فرص خفض التضخم الذي تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر المتأثرين به كونها الاقتصاد الأول في العالم.

تؤكد «أوبك+» أنها غير منساقة وراء التأثيرات السياسية وأن كل قراراتها هي اقتصادية بحتة للحفاظ على السوق النفطي مستقراً، وذلك بعد توقعات بفائض في السوق بداية الشهر المقبل في حالة لم تخفّض «أوبك» إنتاجها.

على الجانب الآخر جاءت الشراكات الاستراتيجية التي عقدتها «أرامكو السعودية» مع كبرى الشركات الصينية ضمن خطتها لتحويل 4 ملايين برميل نفطي يومياً إلى بتروكيماويات، لتعطي ميزة وجودية للنفط كمصدر من مصادر الاقتصاد السعودي بدلاً من بيعه خاماً أو استهلاكه في صناعة وقود السيارات التقليدية ومحركات الحرق الداخلي.

لقد كان استحواذ «أرامكو» على حصة صندوق الاستثمارات في شركة «سابك» عملاق الصناعات البتروكيماوية قبل سنوات قليلة يصب في نفس السياق وهو تعزيز الميزة الوجودية لخام النفط، ولهذا كانت اتفاقيات «أرامكو» مع الشركاء الصينيين الأسبوع الماضي بمثابة تتويج لقيمة النفط كمادة تغذوية لمصانع البتروكيماويات. ليس هذا فحسب، بل إن قطاع البتروكيماويات العالمي نفسه موعود بطفرة كبيرة خلال هذا العقد بداية من العام الجاري بأكثر من 64 مشروعاً منها 44 مشروعاً ستكون في السعودية وبلا شك تأتي مصانع تحويل النفط الخام ومكثفاته إلى بتروكيماويات بخطوة مباشرة على رأس تلك المشروعات من ناحية الأهمية.

إن المرونة التي أبدتها السعودية وشركاتها للنفط والبتروكيماويات إنما هي نتيجة تناغم واضح بين كافة الجهات والشركاء المحليين، وهو ما أكسب السعودية موثوقية أعمق كمورّد متكامل للطاقة وقوّة اقتصادية وجيوسياسية تتزايد كل يوم.

وليس أدلّ على تلك المرونة من سرعة التحركات السعودية في إدارة الأزمات المتوالية بداية من الاعتداءات الأثيمة على مصافي «أرامكو» في بقيق تلتها جائحة كورونا ثم بالحرب الروسية الأوكرانية وتبعاتها الاقتصادية على المنتج النفطي والكيميائي وعلى سوق الطاقة ككل. تلك المرونة والموثوقية التي اضطلعت بها السعودية بنفسها، أسست لتناغم أشمل مع الشركاء الدوليين في مجموعات «أوبك+» ومنظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي وذلك لضمان استقرار اقتصادات العالم نظراً لأن النفط منتج حيوي وحساس لمعظم دول العالم والتي تشكل أغلبها الدول النامية التي هي بحاجة لأسعار طاقة ميسورة الثمن وفي متناول اليد بعكس النظرة الأوروبية الأمريكية الحالية لأهمية سهولة الوصول لبدائل طاقة ميسورة الثمن.

وعلاوة على خططها الاستراتيجية في أن يصبح 50 % من استهلاكها الداخلي للطاقة من مصادر الطاقة المتجددة (غير النفط والغاز) بحلول عام 2030، تمسك السعودية اليوم زمام المسئولية لضبط استقرار سوق الطاقة، وتولي في الوقت نفسه عناية فائقة في خلق قيمة وجودية مبتكرة للنفط وذلك بتحويله في شكله الخام إلى منتجات قابلة للتدوير على هيئة بتروكيماويات سلعية. وهو ما يبني على قواعد خطتها المعلنة للوصول لصافي صفر انبعاثات كربونية بحلول عام 2060. حالياً، السعودية هي الدولة الأولى في العالم التي قطعت الشوط الأكبر في طريقها نحو الحياد الكربوني كنسبة وتناسب. وهو ما يعكس جدّية سعودية ومسؤولية وطنية تجاه الوطن وموارده ومسؤولية إنسانية تجاه إنسان هذا العالم الكبير.