هناك شيء يجهله الغرب المهووس بحكاية المرأة المحجبة، ويعرفه أئمة المساجد جيداً، ألا وهو أن النساء لم يعدن مكدسات في الحريم، ولا محجبات ولا صامتات. ولا سيما الجامعات، حيث تصنع المعرفة، وإذا كان الأصوليون يمارسون مراقبة قوية على المرأة في بعض المجتمعات، فإن هذه الوضعية هي التي تفسر، كيف أن قرار فرض الحجاب على النساء العاملات، كان في مقدمة التدابير، وأن المعركة المنظمة التي يخوضها الأصوليون ضد النساء، سواء كن عاملات في مؤسسات الدولة، أو كن ينتمين إلى القطاع الخاص، ليست معركة عشوائية أو اعتباطية موجهة ضد المرأة كيفما كانت.

إن هذه المعركة تستهدف فئة معينة، من نساء الطبقات المتوسطة، اللائي نلن قسطا من التربية وأصبحن يشغلن وظيفة براتب، تقديرا لعملهن.

تلك المرأة المتمتعة بامتيازات مرئية والممارسة لها، المرأة السافرة التي تترك شعرها عاريا تتلاعب به الريح، وتستعمل السيارة، وحقيبة اليد.

إن المرأة المزعجة هي التي لا تكتفي بتسجيل اسمها في سجل العائلة، ولا تسمح لزوجها بأن يصوت بدلا منها، وهي التي تكون قد دخلت الجامعة بصورة شرعية، وأصبح لديها منبر أكاديمي، تبشر من فوقه بأفكارها، وتربي وتكتب وتحتج، إن مثل هذه المرأة هي الهدف المباشر للأصوليات، سواء كانت هذه الأخيرة أميرية أو شعبية. إن هذا الصنف هو الذي شكل منبر عمل المرأة.

إن السرعة التي تمت بها التغييرات في العلاقات، بين الرجال والنساء، كانت مدوخة، إذا ما أخذنا الجامعة كمؤشر عليها. وفي اليابان مثلا، وهي مجتمع تقليدي محافظ، لم تكن النسبة المئوية للنساء، اللاتي يشغلن مناصب أستاذات جامعيات بعد الحرب العالمية الثانية، تتجاوز 10%، وذلك على الرغم من تقدم هذا البلد في المجال العلمي والتكنولوجي. بينما تلاحظ أن النسب المئوية للنساء، اللاتي يشغلن وظيفة الأستاذية بالجامعة في مصر، ترتفع إلى 28% عام 1986، أي إنها تفوق نفس النسبة في الولايات المتحدة «24عاما 1980» وفرنسا «23 عاما 1987».

هنا يكمن سر مصر التي لا تنفك تفاجئنا، وهذا ما يفسر حدة أصولية الإخوان المسلمين، التي لا يضاهيها إلا حركية أنصار المرأة من المصريات.

لقد ولدت الأصولية في مصر معاصرة للنزعة النسوية، ولم تتوقف الظاهرتان عن التطور جنبا إلى جنب، وبالنسبة لامرأة مغاربية مثلي كانت والدتها أمية، يشكل الحضور في المؤتمرات بمصر مفاجأة متجددة، إن قيادات الحركات النسوية في مصر، لا تتكون من فتيات يرتدين التنانير القصيرة، وإنما من نساء مسنات في أعمار الجدات، وخط الشيب شعر رؤوسهن، يملكن أصواتا مجلجلة، وتتميز خطبهن بالصراحة العارية.

كانت المناضلة النسوية، هدى شعراوي في تلك اللحظة، بين 1923 و1947 تاريخ وفاتها، زعيمة لواحدة من أكثر الحركات النسوية جذرية في العالم. كانت تطالب بالفرد، وبحقه في الاحترام كأساس للإيمان، وفي عام 1920، كانت المصريات قد تمكن من تكوين فرع مهم ضمن حزب الوفد، وظفرن باحترام جزء كبير من الرأي العام.

ولابد أن نعترف هنا بالدور القوي للمثقفين التقدميين، الذين كانوا أول من دافع عن النساء وأيدهن. وعلى عكس ما هو شائع، فقد طرح العربي التقدمي باستمرار، صلته بالمرأة بما هي قضية مركزية ضمن رغبته للتغيير، وبفضل هؤلاء الرجال تحركت الأشياء، وأصبحت الجامعة مكانا للأمل، وبالنسبة لنساء جيلي، لم يكن ينظرن إلى الدراسات العليا على أنها ترف، وإنما كنا نراها بمثابة حظ يتاح لنا لكي نعيش، ونبقى خارج دائرة الاحتقار المعمم، الذي كانت تمثل جوهره الوضعية التقليدية السائدة قبل بضعة عقود، ففي حقبة الستينيات لم تكن النساء قادرات على ممارسة التجارة، أو الانطلاق في الاحتراف السياسي.

لذلك كانت الجامعة والتربية هي السبل الشرعية خارج التفاهة.

ولم يكن الأمر يتعلق بمتابعة الدراسة من أجل الحصول على شهادة، تسمح بممارسة مهنة ممرضة أو معالجة مساعدة، لأن وضع المساعدة يخلف حالة خادمة في المنزل، ومن هنا حصل التصعيد في الإقبال على دراسة الطب.

وتعود حدة مواقف الأصوليين ضد أنصار تحرر المرأة في العالم العربي، إلى أن هاتين الجماعتين، أي الرجال المتحدرون من أصول قروية أو من طبقات متواضعة، والنساء الحضريات المتحدرات من الطبقات المتوسطة والعليا، هما اللتان استفادتا من التربية الحديثة. إنهما جناحان لهذه الطبقة المتوسطة الجديدة، التي ولدت خلال العقود الأخيرة، واستفادت في جملة ما استفادت به من التربية المجانية، التي وفرتها الدولة، والصراع بين الجناحين أمر طبيعي، بل هو شكل من أشكال الصراع الطبقي في عالم عربي شديد الدينامية.

وبما أن المصالح مختلفة، فإن كل طرف يناضل من أجل فرض الرؤية الخاصة به، ويأتي التفاوت من أن الأصوليين يستفيدون من تواطؤ الدول، بينما تناضل النساء وحدهن من دون أية حماية، حتى ولو.....

وإذا كان الأصوليون يزعمون أنهم يحتكرون الكلام باسم الله، فهناك نساء تمارسن النضال داخل الحركات الإسلامية، وأخريات تقمن بأبحاث حول التراث الإسلامي، تقدمن له قراءات جديدة، وتتبنينه باعتباره ضرورياً لحداثتنا، ذلك لأن تحررنا يمر من إعادة قراءة الماضي، واستعادة امتلاك كل ما هيكل حضارتنا.

بموازاة ولوج العالم الجامعي، فإن النساء العربيات عموما والمصريات خصوصا، قمن في البداية داخل الحركة القومية، ثم بعد ذلك كأصوات مستقلة على غرار السيدة هدى شعراوي، بتنشيط حركة نسوية أمطرت الصحافة بكراسات وكتابات جريئة، أحدثت انقلابا عميقا في العقليات.

ولاشك أننا مدينون لهذه الحركة بالإسراع في اتخاذ القرار، الذي منح النساء حق التصويت وحقوق التربية والعمل، التي أدرجت كمسودات أولى ضمن ميثاق جامعة الدول العربية في حقبة الأربعينيات.

وفي حقبة السبعينات لعبت المصرية نوال السعداوي، الداعية إلى تحرر المرأة العربية، دورا بارزاً لكونها دفعت العرب إلى مناقشة مسألة الجنس، باعتبارها حقلا متميزا للعنف والعلاقة السلطوية.

أما مفاجاة حقبة الثمانينيات، فقد جاءت من النساء السعوديات اللائي، تمكن، في حقبة السبعينيات، وعلي رغم المناخ، من الحصول على الشهادات الجامعية.

هكذا نجد أن النسبة المئوية للنساء في هيئة التعليم الجامعي بالسعودية، قد وصلت في أعوام 1980 إلى حوالي 32% . بالطبع هناك فصل بين الذكور والإناث، وكل جنس يتابع تعليمه منفصلا عن الآخر. وعلى الرغم من ذلك، فإن السعوديات يخبئن تحت الحجاب شهادات حصلن عليها من الغرب.

1993*

* باحثة وكاتبة أكاديمة مغربية «1940 - 2015».