بعدما كانت أروقة المحاكم تعج بالمتشاكين، وبعدما كانت الفتيات يقبعن في بيوت آبائهن ضحايا لقضايا عضل بسبب رواتبهن والاختلاف حولها، تغيرت الأحوال مع تغير أشياء مجتمعية كثيرة في المملكة خلال السنوات الأخيرة، فانخفضت نسب القضايا التي تصل إلى المحاكم حول هذا الشأن على نحو ملحوظ وملموس، وازداد الوعي بحقوق المرأة، وصار النقاش حول راتبها مرتبطا أكثر بتفهم جميع الأطراف المعنية به.

وتمتعت المرأة في ظل رؤية المملكة 2030 بكثير من الحقوق، وتفهم المجتمع على نحو أفضل حقها في التصرف في راتبها الذي لم يعد فتيل مشاكل زوجية وأسرية كما كان يحدث سابقا، وكما كان يوقعها غالبا بين ناري رضا الزوج ورضا الوالد، وكيف يقسم الراتب بينهما.

ومع ازدياد تفهم المجتمع صارت المرأة قادرة على إدارة ما تتقاضاه من راتب، دون أن يعني ذلك أن الإشكالات التي كان الراتب يخلقها قد انتهت بشكل نهائي وقاطع.

انخفاض نسبة القضايا

يركز المحامي، المستشار القانوني مانع آل عباس على أن ثمة تغييرات كبيرة طالت وعي الناس وفهمهم لحقوق المرأة، ومنها حقها في التصرف في راتبها، وقال «لا بد أن ندرك أن الوضع في مثل هذه الأمور اختلف كثيرا عن ذي قبل، فأصبح المجتمع رجالا ونساء، صغار وكبارا أكثر وعيا وإدراكا ونضجا وتحسبا للأمور ووزنها».

وأضاف «مسألة راتب الزوجة كانت كذلك من المسائل التي طالها التغيير المجتمعي، فأصبحت المرأة الموظفة لا ترتبط أو توافق على الزواج إلا وقد اتفقت مع شريكها المستقبلي على كثير من الأمور ومن بينها الراتب، وصار الاعتماد في هذا الجانب على عقد الزواج وشروطه، فإذا كان مشروطًا في العقد أن راتبها لها فلا يحق له منه شيئاً إلا برضاها لقوله ﷺ: (المسلمون على شروطهم)، لكن إن سمحت له وطابت نفسها بشيء من راتبها قليل أو كثير فلا بأس، لقول الله سبحانه: (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا).. ولاشك أن رؤية المملكة 2030 ركزت على حقوق المرأة، وكان لها أثر في تغيير عدد من أمورنا الحياتية بما فيها التأثير والإسهام فيما يتعلق بشؤون الأسرة والمجتمع، ما منح المرأة ـ عن حق ـ قدرة أكبر على اتخاذ قراراتها بأريحية ومرونة وبحرية تصرف أكبر براتبها، سواء أكانت تعيش مع أسرتها ـ قبل زواجها ـ أو مع زوجها، وليس لأحد القدرة على إجبارها على شيء أو إكراهها عليه، وقد اختلف الأمر تماما عن ذي قبل حتى في القضايا التي تصل إلى المحاكم والتي كان كثير منها يتعلق براتب الزوجة، حيث انخفضت الآن بشكل كبير جدا جدا عن السابق بسبب تزايد الوعي والإدراك والنضج، حيث بات التفاهم بين جميع الأطراف هو السمة الأبرز بعد أن كان العناد والاستقواء يحكم تلك العلاقة ويقود كثيرا إلى فشلها».

حق التملك

يشدد إمام وخطيب جامع الميزاني بالرياض الشيخ عبدالرحمن بشير الهجلة على أن الإسلام أثبت للمرأة حق التملك والانتفاع والتصرف فيما تملكه، وجعل لها ذمة مالية مستقلة، لا يستطيع الرجل ولياً كان أو زوجاً التعدي على أموالها وممتلكاتها تحت مسمى الوصية أو الحجر أو أيّ مسمى آخر.

ويقول «المرأة الرشيدة في شريعة الإسلام لها حق التملك وحق التعامل والتصرف في مالها كله أو بعضه بكافة صور وأساليب الكسب المباح والوسائل المشروعة؛ كل ذلك من غير سلطان أو إذن أو إشراف من وليها أو زوجها دون إرادتها».

ويوضح أن «المال في هذه الحياة الدنيا هو ملك لله عز وجل، وإنما نحن مستخلفون في التصرف فيه وفق أصول وأحكام خاصة، ومن الأصول الفقهية المرتبطة بالمال أصل عدم جواز أكل الأموال التي في أيدي الناس بالباطل، قال سبحانه ﴿ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾، وفي الحديث: «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه».

والمال في الإسلام ليس مقصودًا لذاته؛ بل هو من أجل الاستعانة به على تحصيل مقومات العيش، والحاجة فيه للجنسين متساوية وقد شرع الإسلام سبلًا مختلفة للكسب لكل من الرجل والمرأة، فمن مصادر الكسب التي تتميز بها المرأة عن الرجل المهر والنفقة، فهما مصدران للكسب تستقل بهما النساء، ويجبان لهن على الرجال».

الولاية المالية

أضاف الشيخ الهجلة «أثبت الإسلام للمرأة الولاية المالية قبل أكثر من 14 قرنا، وعندنا في السنة المطهرة ما يدل على استقلال المرأة بمالها».

ويكمل «في هذا العصر الذي زادت فيه الأعباء والمصروفات الأسرية، وتزايدت التكاليف والنفقات، أصبح الرجل الذي ينوي الزواج يبحث عن موظفة تساعده في مستقبل أيامه. والشريعة تطالب الرجل بالإنفاق على المرأة، ولم تطالب المرأة بالإنفاق على الرجل، ونفقتها بعموم أنواعها واجبة على الرجل، وذلك بحدود طاقته ووسعه، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. والنفقة لا تجب على المرأة إلا في حالة واحدة هي النفقة على والديها إن كانا عاجزين ماليا، وذلك بما يساوي نصيبها من الميراث. ومن هذا المنطلق فلا يحل للرجل التحايل على مال زوجته واستغلال طيبتها، أو التسلط عليه بقوته، بغير رضاها، فهو أمر مُحرّم شرعا ومُجرّم قانونا، وإن اعتدى على مالها بالقوة فهو غاصب. ومن هنا تبدأ المشاكل الأسرية حتى ينتهي هذا الزواج بالطلاق وتفشل هذه الأسرة وتنهدم أركانها ويتشتت شملها. وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله السؤال التالي: هل للرجل الحق في التصرف بمال زوجته مثل الذهب والمجوهرات برغبتها أو بغير رغبتها؟ فكان جوابه ما يلي:

ليس له التصرف في مالها إلا بإذنها، لأنها رشيدة، فإذا كانت غير رشيدة فوليها الذي يتصرف؛ أبوها، أو وكيل أبيها، أما الزوج لا، ليس له أن يتصرف، مالها لها».



المساعدة مستحبة

ختم الشيخ الهجلة حديثه بالتركيز على أن «مساعدة الزوجة لزوجها مستحبة، سواء كانت لأمر دنيوي أو أخروي. وإنفاق المرأة على زوجها وأولادها على سبيل الصدقة فيه الجمع بين الصدقة والصلة، فيُستحب لها تقديم المعونة لنفقات المنزل، ولو كان راتب الزوج كافياً، لما لهذه المساعدة من أثر طيب في تحقيق الرضا والسعادة الأسرية، على أن يتم ذلك كله بالتوافق بين الزوجين. ونقول للرجل الذي يعتدي على مال زوجته اتق الله واعلم أن ما تأخذه من مال زوجتك بغير وجه حق وهي غير راضية بذلك أو طيبت به نفسها فإنه لا يحل لك ولا يجوز لك أخذه فهو من أكل أموال الناس بالباطل الذي نهينا عنه في كتاب الله تعالى، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة»، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسير، يا رسول الله؟ قال: «وإن قضيبا من أراك». ولا يغرنك قدرتك عليها فإن قدرت الله عليك أعظم من قدرتك عليها».

اتفاق مسبق

ترى أخصائية علم النفس، تذكار قاسم الكستبان، أن التبدلات والظروف الاقتصادية المستجدة التي تواجه المجتمع حاليا تدفع الجميع نحو المشاركة في التكاليف، وتقول: «نعلم أن المرأة شرعا غير ملزمة بمشاركة مالها مع زوجها، ولكن إن أرادت المشاركة فهي تثاب على ذلك، وفي ظل هذه الظروف الاقتصادية التي تواجه المجتمع أصبحت النساء مطالبات بالمساهمة في المصروف لتلبية الاحتياجات الأساسية ولكن بحدود المعقول، ويجب أن يكون هناك تفاهم واتفاق مسبق على أن ألا يكون هناك إجبار أو منع لها من حرية التصرف براتبها، وغالباً فإن المرأة عندما يتوفر لديها راتب خاص بها فإنها تقوم بشراء حاجياتها الخاصة كاملة وبعض حاجيات أطفالها من ملابس وإكسسوارات منه، ما يعني أنها تتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية الزوج في هذا الجانب، وهذا ما يتم في الغالب بتصرف طبيعي وباتفاق ضمني حتى لو من غير تصريح. ولا شك أن رؤية 2030 جعلت المرأة والرجل كذلك أكثر وعيا وفهما لحقوق المرأة وفق ضوابط شرعية منحتها كثيرا من الأريحية، لذا نرى أن الوضع اختلف عن ذي قبل، وبات هناك استقرار جيد في كثير من البيوت والأسر وقلّت نسبة المشاكل التي كان يسببها راتب الزوجة».

اختلاف في المفهوم

يجزم كثيرون أن المرأة اليوم باتت تشارك في الأعباء الاقتصادية لأسرتها بشكل أوضح، لكن الفارق الذي يركزون عليه يكمن في أن هذا يتم اليوم بمحض إرادتها، وليس من قبيل الإكراه والإجبار الذي كانت عرضة له سابقا، حيث كان راتبها يقتطع منها برغبة ولي الأمر أو برغبة الزوج فلا تملك فيه أدنى حق.

ويقول عبدالرحمن أحمد آل موته، وهو مشرف ومدرب تربوي ومتزوج من موظفة: «نشهد في الآونة الأخيرة تطورا كبيرا انعكس بشكلٍ واضح على عمل المرأة ومكانتها، وقد أتاح لها ذلك فرصاً كبيرةً للحصول على حقوقها الاجتماعية، والاقتصادية، والتعليمية، وغيرها من الحقوق، كما أتاح لها الفرصة في المشاركة في الحياة العمليّة، فأصبحت تقوم بمسؤولياتها وواجباتها تجاه أسرتها ومؤسستها وهي تفعل ذلك برضا منها وباقتناع وليس بالإلزام والإكراه».

تغير الرجل

تجزم المعلمة صباح محمد صالح على أن كثيرا من الرجال لم يكونوا في الأصل يتدخلون في راتب الزوجة، ويكتفون بتحمل مسؤولياتهم كأزواج وأرباب بيوت دون أي نظرة طمع في راتب الزوجات، وقالت: «مع ذلك، فنحن نشهد حاليا تغيرا واضحا للأفضل في هذا الجانب، فقد بات جميع الرجال تقريبا مدركون أن للمرأة حقوقا، وأنها تدافع عن حقوقها، وتطالب زوجها بأداء حقوقها كزوجة».

وأضافت: «مع كل هذا، تعطي المرأة اليوم بحب ورضا لزوجها، لأنها ترى أنه يستحق وذلك من باب المساعدة والتعاون بينها وبينه في شؤون مصاريف الأسرة، وهذا مطلوب فعلا لأنه يكرس أكثر فأكثر أواصر الود والاحترام والتقدير داخل الأسرة».

تنصل من المسؤولية

على الرغم من التطور الاجتماعي الذي نشهده والذي تجلى في فهم أعمق لحقوق كل طرف في العلاقة الزوجية، إلا أن المعلمة قرفة محمد الفقير التي تجزم أن النساء برزن بشكل أوضح في المجتمع في مجالات عدة وصار بينهن موظفات يتقاضين رواتب عالية أو منخفضة وصرن صاحبات السيادة في التصرف برواتبهن، إلا أن قلة من الأزواج صاروا يميلون للتملص من مسؤولياتهم ويلقونها على كاهل الزوجة التي تضطر مجبرة للقيام بها من أجل الحفاظ على عش الزوجية وتضحية منها من أجل أطفالها فلا مال ولا حياة مقابل التخلي عن أمومتها.