مكانة العقل مشوشة تماماً الآن، وحدهم الفلاسفة لا يزالون مستمرين في النضال من أجل الحفاظ على أولوية التفكير النقدي المتمركز على نظام العقول المفترض وجودها صراحة أو ضمناً في كل تركيبة معرفية (أو خطاب معرفي). وأما العلوم الاجتماعية فنلاحظ أنها تنتج عقلانيات متبعثرة. وهذا ما يؤدي إلى إضعاف المناقشات الأبستمولوجية ويترك المجال مفتوحاً على مصراعيه لما كان جاك دريدا قد دعاه بالعقل التلفزي - التكنولوجي - العلمي.

لا أمتلك هنا المكان الكافي لكي أطور هذه النقطة أو أفصل فيها الحديث ولكنني ألاحظ بالنسبة للموضوع الذي يهمنا أن العقل في السياق الإسلامي تتراكم عليه الإكراهات القسرية وتتضاعف، وقد خلق هو بالذات هذه الإكراهات لنفسه عندما كان يناضل من أجل الاستقلال وتوصل إلى تشكيل دول وطنية أو أنظمة تعلن ذاتها بصفتها المالك الأوحد للحقيقة الدينية الأرثوذكسية.

هذان هما السياقان الأساسيان اللذان قرئ فيهما القرآن واستخدم وفسر لمدة أربعة عشر قرناً في الجهة الإسلامية، وحوالي القرنين في جهة الغرب الحديث.

1 - كل المستشرقين (ما عدا استثناءات قليلة جداً لم تترك أي أثر دائم) يزدرون المناقشات المنهجية والقلق الأبستمولوجي. ولا يهتمون إلا بدراسة «الوقائع المادية المحسوسة بالمعنى الذي يقصدونه وضمن الإطار المعرفي الذي يختارونه».

2 - هناك نوعان من العلماء المستشرقين: المؤمنون وغير المؤمنين، والمؤمنون يحملون معهم عندما يدرسون التراث الإسلامي ثقافتهم اللاهوتية اليهودية والمسيحية.

وأما غير المؤمنين من لا أدريين أو ملاحدة أو حتى مجرد علمانيين فإنهم يطمسون تماماً مسألة المعنى في الخطاب الديني أو يتجاهلونها تجاهلاً تاماً. وهكذا يرفضون الدخول في مناقشات حول مضامين الإيمان ليس بصفتها قواعد حياة وسلوك مُستبطَنة من قبل كل مؤمن، وإنما بصفتها تركيبات نفسية - لغوية، واجتماعية وتاريخية - هكذا نجد أن القضية المركزية لمسألة الحقيقة قد أخليت تماماً من قبل الدراسة العلمية للقرآن. ومعلوم أنه نص يهدف أولاً وقبل كل شيء إلى تقديم المعيار الوحيد والمطلق والمقدس للحقيقة الكلية العليا بصفتها الكائن الحقيقي، والواقع الحقيقي والشريعة الحقيقية (أو الحق في القرآن).

هكذا نجد أن هذه المسألة المركزية بالنسبة للعقل الديني كما للعقل الفلسفي الأكثر نقدية وتقدماً تُهمل من قبل هؤلاء الباحثين الأشاوس.

إن مبرر وجود النص الديني أو غايته القصوى تكمن في النص على هذه الحقيقة كما تشهد على ذلك كل تركيباته البلاغية واللغوية، إنه يهدف إلى تقديم هذا المعيار الوحيد للحقيقة إلى متلقيه المباشرين في زمن النبي ثم من بعدهم إلى أجيال المؤمنين المتلاحقة عبر التاريخ. لا ريب في أن هذا الحق القرآني قد شهد منذ تجليه الأولي بين عامي 610- 632 وحتى يومنا هذا توسعات أو انتشارات يمكن لعلم التاريخ وعلم الاجتماع الثقافي أن يشرحاهما لنا عن طريق الدراسة العلمية الدقيقة.

إني لا أدعو العلماء المستشرقين إلى أن يكشفوا لنا عن المعنى الصحيح أو الحقيقي لنصوص معاشة من قبل المؤمنين وكأنها مقدسة (أو) موحى بها. إني لا أطلب منهم أن يبلوروا اليقينيات التي تتماشى مع عمليات التقديس، والتعالي والأنطولوجيا، والروحانيات، ... إلخ .

إني لا أطلب منهم أن يبلوروا هذه اليقينيات على غرار أو على أثر الأنظمة الكبرى للفكر اللاهوتي والفلسفي والتشريعي والتأريخي الموروث عن فترة القرون الوسطى. لا، إني لا أطلب منهم شيئاً من هذا القبيل، فمهمة الباحث تكمن في كل الأنظمة الفكرية التي تنتج المعنى، وكل الصيغ التي اختفت أو لا تزال حية والتي تنتج بدون تمييز المعنى وآثار المعنى. هنا يكمن التفريق الأساسي بين الباحث التقليدي والباحث الحديث. وهذا التفريق يحيلنا إلى مشاكل عديدة لم تُطرح أبداً في السابق أو طرحت بشكل سيئ أو لم تلحظ حتى الآن إلا بالكاد.

ينبغي أن ننظر إلى القرآن من خلال الكتب المشابهة له في الثقافات الأخرى (أي مع التوراة والأناجيل) فالمقارنة هي أساس النظر والفهم. ونلاحظ أن فعالية الروح البشرية تبلغ ذروتها في هذه النصوص الدينية العليا كلها، إنها تبدو أقرب ما تكون إلى طوباويتها، وآمالها المتكررة وغير المشبعة، ونضالاتها الجاهدة من أجل انحسار أو تراجع حدود عبوديتها والتوصل إلى الممارسة الكاملة لإرادتها في المعرفة، بالإضافة إلى حريتها النقدية والخلاقة.

نعم إنه لتوجد في النص القرآني وتوسعاته التاريخية الهائلة مادة حقيقية من أجل امتحان مقدرة العقل على فك ألغاز منتجاته الخاصة.

إني إذ أصوغ هذه الصورة الطوباوية لا أنسى أن الدراسات القرآنية تعاني من تأخر كبير بالقياس إلى الدراسات التوراتية والإنجيلية التي ينبغي أن نقارنها بها باستمرار. وهذا التأخر يعكس التفاوت التاريخي بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الأوروبية أو الغربية.

فالقرآن لا يزال يلعب دور المرجعية العليا في المجتمعات العربية والإسلامية، ولم تحل محله أية مرجعية أخرى حتى الآن.

إنه المرجعية المطلقة التي تحدد للناس ما هو الصح وما هو الخطأ، ما هو الحق وما هو الشرعي وما هو القانوني وما هي القيمة ، ... إلخ.

1998*

* باحث أكاديمي ومؤرخ جزائري «1928 - 2010»