قبل أن يتخذ العرب قراراً -مع بعض التحفظات- بإعادة سوريا إلى عضويتها ومقعدها في الجامعة العربية، كان الرئيس الإيراني يحط في دمشق ليحتفل بـ«الانتصار» مع رئيس النظام السوري. طبعاً سماه «انتصار» سوريا رغم التهديدات والعقوبات، وهو يعني بالتأكيد «انتصار إيران». وجاء إبراهيم رئيسي في رحلة «شوبينغ» لحصص في عدد من القطاعات السورية الحيوية إضافة إلى استحواذ على أراض واسعة للاستثمار فيها مقابل «ديون» مستحقة على نظام بشار الأسد ولا مجال لاستيفائها في الوضع الاقتصادي والمالي الراهن لسوريا النظام، لكن إقفال حسابات «مرحلة مكافحة الإرهاب» التي انتهت يترافق مع حجز طهران دور لها في «عملية التنمية والتقدم» أي في مرحلة إعادة الاعمار.

وعلى رغم الأجواء الاحتفالية فإن رئيسي لم ينس المهمة الثانية التي قدم من أجلها، وهي التوصية بـ«وحدة قوى المقاومة» التي باتت «ضرورية أكثر من أي يوم مضى» في مواجهة إسرائيل. كانت هذه تزكية إضافية لمشروع «وحدة الساحات» من سوريا إلى لبنان وغزة والصفة الغربية تزامناً مع إعادة الاعمار التي تروج طهران أن دول الخليج والصين ستمولها، ولا عزاء للأميركيين والأوروبيين الذين لا يزالون يربطون مساهمتهم في إعادة الإعمار بـ«حل سياسي» للأزمة السورية.

الأزمة؟ أين هي هذه الأزمة؟ لم يظهر لها أثر في مداخلات رئيسي والأسد. لم يشر أي منهما إلى شعب سوريا لدى توقيعهما التفاهم على «خطة التعاون الإستراتيجي الشامل الطويل الأمد» التي لم يكن متوقعاً أن ينشر مضمونها، لكن ذكر في الإعلام الرسمي أنها تشمل مجالات الزراعة والنفط والنقل والمناطق الحرة والاتصالات وغيرها... كان العامان السابقان صعبين في علاقة دمشق مع حكومة رئيسي وشروطها القاسية لمواصلة دعم النظام سواء بالمال أو بالنفط، وصولاً إلى اشتراط الدعم مقابل الدفع مسبقاً، ولم يكن مجلس الشورى الإيراني متسامحاً أو متفهماً بل ملحاً على تحديد مصير المليارات التي أنفقت على سوريا الأسد، ولولا تدخلات «الحرس الثوري» لتعذر الاستمرار في العمل ببعض الاتفاقات الحيوية، وبعضها طبي. كان هناك غضب في طهران لأن النظام يتمنع عن الترخيص لمشاريعها فيما يستجيب كل أو جل ما تطلبه روسيا من استحواذات، ولذلك تأجلت زيارة رئيسي أكثر من مرة ولم تتم أخيراً إلا لأن «الصفقة» أنجزت، ولأن النظام لبى شروطها أخيراً.

كان يمكن هذا «التعاون الإستراتيجي» أن يكون طبيعياً لو أنه قائم على تبادلية أو شبه ندية في المصالح والاستثمارات، أو بين دولتين طبيعيتين مستقرتين ومزدهرتين وتتمتعان بصداقات دولية واسعة ولم تفتك العقوبات الدولية في عافية اقتصاديهما وعملتهما. غير أن الواقع يقول غير ذلك، إذ يريد «التفاهم» أن يبدو اقتصادياً تنموياً لأن حكومة رئيسي طرف فيه، وهي غير مخولة التطرق إلى أي أمر آخر، سياسياً كان أم عسكرياً- تسليحياً، أما الحديث عن «المقاومة» ووحدتها فهو من اللوازم الشعاراتية لأي مسؤول إيراني متشبع بأيديولوجية النظام، لذا كان مفهوماً أن لا يقترب «تفاهم رئيسي- الأسد» من الشأن العسكري وترسانات السلاح، ومن الميليشيات متعددة الجنسية ومعسكراتها الشاسعة حول دمشق وفي الشمال الشرقي وفي الغرب والجنوب الغربي (الجولان)، فهذا يخضع لخطط «الحرس الثوري» والاتفاقات بين العسكر، لكن غير المفهوم أن يتجاهل «تفاهم» كهذا البيئة السياسية المتوترة التي سيباشر نشاطه «التنموي» فيها، وأن يتجاهل طرفاه المآسي التي أنزلاها معاً بالشعب السوري بكل فئاته الموالية والمعارضة.

تركت الشؤون السياسية هذه للعرب، وقد عرض البيان الختامي لاجتماع عمان التشاوري الحلول المفترضة لها، محاولاً بصعوبة واضحة التوفيق بين مفاهيم وشروط كثيرة متعارضة أو متداخلة، من القرار 2254 (الذي عاود الظهور بعد تغييبه في بيانات سابقة) وبين «قانون قيصر» (الذي طالب أعضاء في الكونجرس البيت الأبيض بالتشدد في تطبيقه).

يعتبر النظام وإيران أنهما أنهيا «حل» الأزمة بطريقتهما، فقبل التدخل الروسي استطاعا تدمير ما أمكن من العمران في سوريا وتهجير من أمكن اقتلاعهم من أهل سوريا، وما لبثا أن استكملا «الحل العسكري» بفضل المساهمة الروسية الوحشية الحاسمة وانكبا هنا وهناك على تغيير معالم المناطق وتغيير ديموغرافية السكان لئلا يفكر من نزح داخلياً أو لجأ إلى الخارج في العودة إلى موطنه الأصلي. وعلى قاعدة هذا «الإنجاز»- اللابشري واللاإنساني- العظيم يراد الآن أن تكون للعرب مساهمة في «الحل السياسي» للأزمة، وهي مساهمة كان لا بد منها في نهاية المطاف، لأن بديلها- أي ترك سوريا- لم يكن خياراً، لكن نجاحها اعتماداً على «تعاون نظام الأسد» قد يكون مجازفة كبرى، وليس بين المطبعين العرب مع النظام من يصدق الأوهام أو يتعامل بها، لكن الأهداف بعيدة المدى قد تستحق هذه المجازفة.

مع اعتبار اجتماع عمان حلقة أو مرحلة تتبعها اجتماعات أخرى، ومع تبنيه سياسة «الخطوة مقابل خطوة» بدت عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية كإجراء اداري عادي، إذ خرجت بقرار اعترض عليه بعض من الأعضاء وتعود بقرار يعترض عليه بعض آخر. هناك كثير من الجدية والدقة في نص البيان الختامي لاجتماع الـ4+1 في عمان، إذ يوضح أن النظام السوري قابل «خطوة» التطبيع العربي (بخاصة السعودي) معه بـ«خطوة» الموافقة على فريق عمل سياسي- أمني للتعاون في وقف تهريب المخدرات عبر حدود سوريا مع العراق والأردن (لكن ماذا عن الحدود مع لبنان؟)، أما الكم الهائل من القضايا الأخرى فكان البيان واضحاً بأنه سيخضع لـ«خطوات» تالية. وبذلك وضعت «المبادرة» العربية نفسها في اختبار صعب، بل إن النظام وضعها في متاهة سباق مرير يتحكم هو بتفاصيله. كيف؟

بمقدار ما يكون هناك دعم مادي لنظام الأسد تكون استجابته للخطوات التي يطرحها العرب، لذا اهتم النظام بمبادرات التطبيع الثنائي معه أكثر مما اهتم بـ«تفصيل» مثل استعادة سوريا عضويتها في الجامعة العربية، لكن اجتماعات جدة وعمان وجولات وزير خارجيته أقنعته بأن «استعادة شرعيته» ولو عربياً فحسب يجب أن تمر عبر الجامعة، وإذا مرت لا بد أن تدعم «شرعيته» الدولية. أما «الأولويات» الكبرى التي حددها العرب، كـ«إنهاء الأزمة وكل ما سببته من قتل وخراب ودمار» و«العودة الطوعية الآمنة للاجئين» و«إيصال المساعدات الإنسانية» و«وقف تهريب الكبتاجون» و«استئناف أعمال اللجنة الدستورية» وحتى «مكافحة الإرهاب»، فهذه هي «التفاصيل» التي صنعها النظام ويعرف كيف يستخدمها للابتزاز وكيف يغرق الآخرين بها.

* ينشر تزامناً مع «النهار العربي»