«الحافظ بن الجوزي» (ت 597) كاتب مكثر ومتنوع الاهتمامات (في نطاق قيمته المهمة كمثقف ديني وعالم)، بالإضافة إلى ما تتميز به لغته من بساطة بليغة.. لا شك أنه حصل عليها من قراءاته الواسعة.

وقد تعرض في حياته للسجن على يد أحد الولاة الذي يبدو أنه صفى معه حسابات خاصة، إذ وضع قائدا للشرطة «شيعيا» موقع المدعي العام ومنفذ الحكم، وظل الشيخ يؤلف حتى جاء يوم أحس فيه الوالي بتأنيب الضمير، أو قل بتغير شيء في موازين السياسة الخاصة به، ليزور الشيخ في محبسه «الغريب»، ويروي التاريخ خروج الشيخ بعد اعتذار الوالي، وطلبه الصفح، وإعادة الاعتبار له.

ومما يروى (وقد يكون من قبيل ما تضفيه الجماهير على أشخاص بعينهم مما هو فوق الواقع) أنه يوم موته أوقدت تحت القدر الذي سيغسل الميت من مائه نار بخشب براية أقلامه، ويقولون: «النار ظلت مشتعلة، وكلما كادت تخبو أتي بالمزيد من خشب الأقلام، فاستوقدت من جديد».

ومهما تكن المبالغة هنا، فإن «ابن الجوزي» رجل لا يكف عن الكتابة أبدا. وعلى سبيل المثال، فإن له كتابا في التفسير اسمه «زاد المسير» يقع في تسعة مجلدات (ما يقرب من 5400 صفحة)، إلى جانب كتبه الأخرى في جميع المواضيع.

ما استوقفني في هذه الشخصية الكبيرة (علاوة على ما سبق) أنه على الرغم من اشتغاله بالعلم الديني، والمنعطفات التي مر بها كسائر الكتّاب المخلصين، فإن له «مؤلفات» غاية في التواصل مع الناس من خلال الكتابة في مواضيع شعبية، تؤتيه لكثرة تجاربه، واختلاطه بشخصيات لا يعرف أهميتها إلا مثقف حقيقي فيما لا يتعارض مع رسالته الرئيسية.

ومن ضمن هذه الكتب مؤلف لطيف ومسلٍ، سماه «أخبار الحمقى والمغفلين»، وضمنه قصصا شبه «حقيقية» مبوبة حسب طوائف ومهن، وأطر هؤلاء الذين سماهم «الحمقى»، فهناك «المغفلون من القراء»، و«المغفلون من الكتاب والحجاب»، و«المغفلون من الأعراب».. إلخ.

وقد ساق الشيخ في تقديم كتابه ما يظنه مبررات تسمح له بتأليفه، والأرجح أنها كانت موجهة إلى أولئك الذين يصرون على صب قوالب له ولأمثاله، فلا ينتظرون منهم الخوض في هكذا أمور، لأنها بزعمهم تقلل من أهمية كاتبها، وثقله العلمي والديني أو الثقافي، وإلا فإن الكتاب ليس بحاجة لهذه المبررات، مع أنها حقيقية.

و«الأخبار» التي ترد هنا أو في كتب التراث الأدبي هي شكل من أشكال القصة، حيث توصل فكرة ما إلى المتلقي بأقل عدد من الكلمات دون التفات يذكر إلى ما إذا كان الخبر موثقا أم لا، فالهدف يتحقق من سرده، وما يلقيه في الناس من استجابات، و«الأخبار» أو «القصص» الواردة في الكتاب تتميز بأنها «نكت مثقفة»، أي ذلك النوع من السخرية الهادف إلى خلق عملية «استبصار» أو الهزء من واقع ما بهدف «تعريته». كما أن هذه الأخبار لم توفر «فئات» ينظر إليها الناس بنوع من الحرج الذي يبدو كما لو كان تقديرا، بينما هو شكل من «التحاشي» مثل المؤذنين والقضاة والولاة والمعلمين، وغيرهم، وهو منهج «ابن الجوزي» في التأليف: منهج منفتح لا يمارس تغييب الحقائق.

وعلى سبيل المثال، إذ يتحدث عن المغفلين من «القصاص»، فهو كأنما يريد أن يقول: تلك النكات تشمل مجموعة من الذين يتصدون لعمل ذي وزن (آنذاك)، وهم شديدو الحمق، لولا أن الظرف التاريخي والاجتماعي آمن بتعدد المهن!، فصار «القص» مهنة أيضا.

إن الشيخ «ابن الجوزي» في كتابه الممتع هذا يبرهن على أن الكتاب حتى مع علو قيمته العلمية لا يُنقص منه أن يشارك في مثل هذه الثقافة الشعبية، التي تشكّل «الأخبار» أهم أعمدتها، إذ إنه يفعل ذلك بوعي ومسئولية تجاه الناس الذين يتداولون في غياب مثل هذه الأخبار «الموجهة»، حتى على حميميتها ما ينتشر في «السوق» أو «مجالس اللهو»، أخبارا موازية تركز عادة على أجزاء معينة من الجسم أو وصف علاقات سرية أو إضافة أحداث ملفقة حول شخص ما تتناول سيرته شديدة الخصوصية، لتشويهه «مثلا». وقد يستغرب القارئ للتاريخ في تلك الحقبة انتشار أخبار «الفسّاق»، بما أن الدولة الإسلامية أتاحت حياة مفتوحة، ولم تصادر حرية التعايش والتثاقف والتواصل، مثلما منحت كل الأهمية لحرية الفرد في إطار مسؤوليته، ولكن يبدو أن ثمة هامشا يلتقي فيه هؤلاء المولعون بنسج الحكايات وممارسة تشويه كل الأشياء الجميلة، نزولا بها إلى الحضيض، تنفيسا عن المرض والهذاءات.

لا يملك القارئ إزاء الشيخ «ابن الجوزي» إلا أن يعتبره أحد الأسماء المهمة في حركة العلم والثقافة والالتزام التي أفرزها عصر من ضمن ما أفرز التقدم والحوار والتسامح.

1997*

* كاتب وقاص سعودي «1954 - 2022»