منذ سنوات لا تكاد تخلو أي نشرة أخبار في الصحف والقنوات العالمية من خبر عن السعودية، وكانت تأخذ طابع النقد والهجوم العنيف في أغلب الأحيان تجاه القضايا التي تتناولها في السياسة والاقتصاد والمناخ والنفط والديموقراطية الغربية والمنظمات الحقوقية، لكن من منتصف العام الماضي 2022 ومطلع هذا العام بدأت مراكز التحليل تتحدث عن تحول في لغة الخطاب الإعلامي الغربي المبنية على تصريحات أو تسريبات القادة الغربيين، وإن بقيت محافظة على النبرة الهجومية مع خفوت في درجة الحدة.

هذا التحول بني على أن السعودية بدلا من أن تكون مادة إعلامية تصنعها دوائر القرار ومراكز الأبحاث وتسربها إلى وسائل الإعلام، أصبحت السعودية هي صانعة المحتوى الفريد وغير المتوقع من مراكز التفكير، ففي الوقت الذي كانت فيه هذه المراكز تبني دراساتها على المعطيات التقليدية التي لديها تتفاجأ بأن السعودية تتحرك خارج صندوقهم الذي يفكرون فيه وتحقق نتائج تغير قوانين اللعبة تماما، فمنذ أن تولى الرئيس الأمريكي بايدن كان توقع المحللين الغربيين أن الهجمة الأمريكية على السعودية ستزداد، بصرف النظر عن قناعة بايدن وأركان حكومته بتأثير ذلك سلبا على العلاقات مع السعودية، لأنهم يرون أن بايدن حريص على إرضاء ناخبيه واليسار الأمريكي من سياسيين وإعلاميين ومفكرين أكثر من حرصه على الحفاظ على مصالحهم مع السعودية والخليج، لأن أعينهم ليس على مصالح أمريكا الاستراتيجية وإنما على انتخابات 2024، ولا بد أن يظهر بايدن ليقول إن الوعود الانتخابية التي أطلقها في 2019 التزم بها بعد توليه الرئاسة.

كان الكل يتوقع ذلك، ولكن السؤال إلى متى يستمر هذا الضغط؟ توقع وقتها أحد الأصدقاء العاملين في مركز أبحاث أمريكي أن تستغرق 6 أشهر ثم تعود الأمور لطبيعتها، وفي المقابل ذكرت لي سياسية أمريكية سابقة أنها لن تزيد عن السنة، وعندما ذكرتها بعد مضي سنتين أن الإدارة الأمريكية أضعف من أن تتخذ موقفا أمام الدولة اليسارية العميقة مدت كفيها دلالة على الحيرة والتسليم بالواقع ولم تشأ أن تصرح برأيها، هذا هو الخط الذي كان يسير عليه التفكير الغربي، وأن دول الخليج والسعودية ليس لها في نهاية المطاف إلا أن تحني رأسها اتقاء للعاصفة التي قد تطول وقد تقصر، وحتى زيارة الرئيس بايدن لجدة في يوليو 2022 كانت لإطفاء اللهب وليس القضاء على مصدر النيران، ومشكلتهم في ذلك أنهم يتعاملون مع السعودية بالفكر والسياسة التي تعودوا عليها قبل 2015، ولم يأخذوا موضوع الرؤية بجدية، وبعضهم ظن أن الرؤية مجرد برنامج اقتصادي للتغلب على أزمة الدخل نتيجة انخفاض أسعار البترول من منتصف 2014 إلى أوائل 2016.

لكن الذي جد في الموضوع وأربكهم أمران:

أولهما: أن المشهد الدولي أصبح منذ العام الماضي في قمة الضبابية وعدم وضوح الرؤية، وفي قمة الحساسية السياسية والعسكرية، وفي ذروة الارتباك السياسي للقادة الغربيين تحديدا وللعالم بشكل عام، وبدأ السؤال الذي شغل المحللين جميعا هو كيف سيكون النظام الدولي البديل بعد أن انهارت نظرية القطب الأوحد، وماهي خريطة التحالفات الجديدة اقتصاديا وسياسيا؟

وإلى جانب ذلك بدأ الذكاء الصناعي يطل برأسه ليثير مخاوف الجميع، وليخرج من أدوات تحكم اليسار الأمريكي إلى أطراف من اليمين، ويطل بعيدا من أقصى الشرق (الصين).

الأمر الثاني وهو الأهم: أن التحركات السعودية الأخيرة فاجأتهم سواء في نتائج قمم جدة مع بايدن ونتائج قمم الرياض مع شي جين بنغ، والمؤقف السعودي المؤثر في أوبك بلس، الذي تحققت نتائجه الإيجابية على الأرض رغم معارضة أمريكا والعديد من الدول معها ومحاولة شيطنتها، ونتائج محادثات بكين المتعلقة بإيران، وموقف السعودية المتوازن من روسيا وأوكرانيا، وموقفها في سوريا وليبيا وغير ذلك كثير.

ما أربك المحللين والسياسيين الغربيين أنهم وجدوا أن السعودية رغما عن كل محاولات الإدارة الأمريكية ومن تابعها مثل كندا وبريطانيا وألمانيا وغيرها أصبحت لاعبا اقتصاديا دوليا مهما، وقوة جيوسياسية عالمية، وديناميكية وشعبية مؤثرة إقليميا، وظنوا أن السعودية غيرت سياستها السابقة، لأنهم كانوا متعامين عن النظر إلى السعودية منذ عام 2015 وبداية الرؤية.

عندما دعمت السعودية وقوات التحالف الحكومة الشرعية في اليمن كانت الصواريخ الباليستية الإيرانية والمدافع بعيدة المدى منصوبة على طول الحدود السعودية اليمنية، ولو تأخرت السعودية قليلا في قرارها لالتهبت المناطق الجنوبية جميعها بالاعتداء الحوثي، وماقامت به السعودية والتحالف ونجحت فيه أنها قضت على أي إمكانية لإشعال الحدود وإشغال المناطق الجنوبيية المحاذية، ونقلت المعركة إلى العمق الحوثي وحمت حدودها ومواطنيها، وبالمعركة الجوية لم تتكبد أي خسائر تذكر في الأرواح، وما الصواريخ البالستية والمسيرات التي تطلق بين فترة وأخرى من صنعاء وصعدة إلى الأراضي السعودية إلا حذفة شرود من بعيد.

التصعيد الذي تم من الدول شمال شرق السعودية، كان الموقف السعودي لقطع جذور الهجمات ضد السعودية إعلاميا وسياسيا وحروب الوكالة والنفاق السياسي، وبعد أن وضعت السعودية حدا لذلك وعرف الآخرون جديتها وحزمها وقوتها عادت الأمور إلى طبيعتها أو بدأت تعود.

حققت السعودية جزءا كبيرا من مستهدفات الرؤية، إذ حققت في نصف عمر رؤية 2030 مايزيد على 70% منها، متجاوزة بكثير أهدافها المرحلية، وبعد أن أوضحت لجيرانها وللاعبين الكبار إقليميا ودوليا أن هناك سعودية جديدة في موقفها ورؤيتها وفي تعاطيها مع الأحداث والدول، وبعد سنوات من الدبلوماسية الحقيقية القائمة على الندية والاستقلالية وتغليب المصلحة الوطنية على الخضوع لإملاءات خارجية أو الدخول في تحالفات غير متكافئة أو غير مفيدة، بدأت تظهر هذه النتائج للعلن، وظن المحللون والسياسيون أن السعودية غيرت سياستها واستراتيجياتها لأنهم لم يضعوا النتائج في سياقاتها، وأخذوها منبتة عن الرؤية السعودية التي عملت بدأب وجهد وهدوء، وشارك فيها جميع السعوديين بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.

ونحن نتتبع ونشارك على مدى سنوات الرؤية كنا نعرف الأهداف المرحلية والاستراتيجية، وكنا نرى هذه النتائج التي فاجأتهم وأربكتهم بكل وضوح أولا بأول، كنا نتوقع مآلات العلاقات مع اليمن وقطر وإيران وتركيا في المجمل، كما نعرف مآلات المواقف الرمادية مع الدول الأخرى عربيا وإسلاميا، كما كنا نتوقع التأثير الجيوسياسي للسعودية في مختلف أنحاء العالم وصرنا نرى أصداءها في إفريقيا وأمريكا اللاتينية ودول الكاريبي، حتى في المناطق الهشة أمنيا مثل سوريا وليبيا والسودان والصومال، أو الهشة اقتصاديا، وأن الدول ذات المواقف الحادة أو المواربة ستعرف حجم ونفوذ وتأثير السعودية وتمد يدها إليها، وقد كان، والسبب الذي لم يجعل ذلك واضحا للعيان هو مبادئ الشهامة السعودية التي لا تفجر في الخصومة، ومن جاء مبادرا ومادا يده معتذرا تحفظ له قدره وكرامته وسمعته أمام مواطنيه والعالم.