كثيرا ما أتساءل: هل بإمكاني الإيمان بوجود حتمية في الكتابة، وفي الآن نفسه أؤمن بأن الكاتب المبدع مبتكر لإبداعه بصورة واعية؟. وفي بعض المرات، أعود لأفكر بلفظ (الحتمية) الذي يجعلني أستحضر أن كل ما يحدث كان لابد أن يحدث. ولفظ (الكتابة) يجعلني أستحضر حرية الإرادة، أو المسؤولية المتفردة بشكل ما. ولم أختر (الكتابة) تحديدًا، إلا لإمكانية أن نتصورها بوصفها فعلًا إنسانيا في المبتدأ والمنتهى. وسيكون السؤال إذن: هل بين اللفظتين تنافر؟ أعني بين الحتمية والكتابة؟ إذ الذي يُقابل الحتمية هي حرية الإرادة، وليس حتمية من نوع ثانٍ؟

يمكن طرح الفكرة من خلال (نوعية ما يُكتب)، فثمة كتابة إبداعية لا تقترن بالسبب المباشر، وثمة (كتابات) هي نتيجة لسبب مباشر؛ لهذا كان نتاج الكاتب المبدع مصدر التساؤلات، ومصدر الإشكال. أما الكاتب غير المبدع، فلا يثير نتاجه إلا التداول في الوسائل العامة، وكأنه تهديد علني لنهب بنك، تهديد يجذب الانتباه وليس فيه إبداع. وهذا تشبيه غريب، لعلي تعمدت وضعه. ولا أدري هل هذا محتم عليَّ أم لا؟!

إذن يمكن بيان ما تريده المقالة كالتالي: الحتمية إما أن تكون نافية لكون الكاتب مختارا لأسباب كتابته الخاصة. أو على الأقل: تنفي كون الكاتب مصدرًا لابتكار سبب من أسباب نتائج ما يقرأ، بل هو أداة، أو مظهر للسبب الأساسي أيا يكن. ومن ثم فإنَّ (الكتابة) هنا ستكون نتيجة مباشرة لسبب مباشر، ولنقل مثلا: حديثًا عن مناسبات دورية، أو ترجمات حرفية، أو نقلًا لحدث ما، أو تحليلا لواقعة وغيرها. وربما أغلب الكتابات هكذا، أي أنها صورة لما يُراد أن يُتكلّم حوله. وهذا المراد لا يتحكم الكاتب في أسبابه، بل هو من فرض الحياة القائمة حوله، لهذا فإن أصحاب هذا النوع لا يغوصون في محيط الجمال، ليصنعوا شكلا جديدا، يأخذ جماله من جمال البحر المحيط. أو أن تكون الحتمية لا تنفي أن يكون الكاتب مختارا لأسباب كتابته. أي أنَّ الكاتب بنصّه الإبداعي شاركَ في صنع أسباب كتاباته. وهو مع ذلك ما زال يدور في حيز الحتمية. وهذه محاولة للإجابة عن سؤال التنافر في أول المقالة.

وأول سؤال يُطرح على (الكتابة الإبداعية): كيف حدثت؟ هل هي بسبب مباشر أم إلهام عال؟ إن قلنا بالثاني أزلنا عنها الحتمية، وهذا ما لا تريده المقالة. لكن في الآن نفسه هي ليست بسبب مباشر، كما هي الكتابات العامة. إذن ثمة اقتراح ثالث يعتمد على أنَّ العلاقة السببية موجودة في الكتابة الإبداعية، لكن ثمة سبب ضروري مباشر، وسبب ضروري إبداعي. فمثلا الكاتب يمسك القلم، ليكتب، فتكون حركة القلم على الورق ناتجة عن تحريك يد الكاتب للقلم، وهذا سبب ضروري يشترك فيه المبدع وغير المبدع. فأما الكتابة غير الإبداعية فينتج عنها - من خلال هذا السبب الضروري- محتوى مباشر سواء للواقع أم للأفكار المتداولة في الواقع، وهذا المحتوى يتسق مع ضرورة تحريك القلم. لكن السؤال الخطير هو عن السبب الإبداعي وراء حركة القلم؟ السبب الذي يختص به النص الإبداعي، عن النص العادي؟.

في الإبداع يكون الكاتبُ أمام أسباب محتملة مركبة، وليس أمام سبب مباشر واقعي فحسب..، ومن ثم فإنَّ الكاتب حين يحدد سببا من هذه الاحتمالات، فإن ذلك يعني إرادته الواعية لصنع نصٍ خاص، يتحدث شكلُه قبل مضمونه، لصنع نصٍ لا يخضع لانعكاسية الواقع المباشرة. وستكون القاعدة الحتمية في الإبداع: أنه إذا وقع شيء ما فسيقع شيء آخر. ومعنى ذلك في سياقنا أنَّ تحديد سيناريو للواقع من خلال شكل الكتابة، فإنَّ ذلك سيُحدث مضمونًا مرتبطًا بذلك السيناريو، الذي هو جزءٌ من احتمالات الحياة. وسنكون حينها أمام نصٍّ إبداعي..، أمام حتمية إبداعية.

التفاتة:

يقول بورخيس: «بعد بحث دؤوب، عثرتُ على قصائد غير مجموعة وقطع نثرية. بعد أن جُمعت هذه المتفرقات، ورُتّبت، ونُشرت في 1960م، أصبحت كتاب (الخالق). واللافت أن هذا الكتاب الذي راكمتُه بدلا من أن أؤلفه يبدو لي أكثر أعمالي شخصية، ولعله أفضلها برأيي، والتفسير بسيط جدا فصفحات كتاب الخالق بلا بطانة. كل قطعة كتبت من أجل ذاتها، وهي نابعة من ضرورة داخلية. حين بدأت بها أدركت أن الكتابة الجيدة خطأ، وخطأ يولد من الغرور. أؤمن بشدة أن الكتابة الجيدة، يجب أن تُنَفّذ بشكل خفي».

التفاتة عن الالتفاتة:

لما كتب عبدالله القصيمي (العالم ليس عقلا)،- وفيه نفي لمعنى الوجود الإنساني- كان سببًا لتحريك قلم ميخائيل نعيمة، نحو جعله يختار شكلا لمعنى الوجود من خلال الكتاب نفسه. يقول: «لما كان لرجل مثلي أن يمتع ذوقه الأدبي بكتابٍ ككتابك أردتَه نفيًا لمعنى وجودك، وكل وجود، فجاء تثبيتًا رائعًا لوجودك وكل وجود».