اختتمت أعمال القمة 32 لمجلس جامعة الدول العربية، وقد جاءت هذه القمة مختلفة عما سبقها إذ صاحبها تفاؤل كبير سواء في الشارع أو على مستوى النخب، وذلك بسبب نوعية الملفات التي عالجتها القمة، وكذلك بسبب حالة توحيد الجهود وتبريد الجبهات الساخنة وتصفير المشكلات التي سبقت انعقادها وعملت عليها الدبلوماسية السعودية ببراعة طيلة الفترة الماضية.

ونحن نقرأ مشهد القمة علينا أن نتذكر أن الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - ومنذ اليوم الأول لإعلان الرؤية السعودية 2030 كان قد تبنى موقفاً داعياً لدول الشرق الأوسط لنبذ الخلافات والاتجاه للاستقرار كجزء من خطة تنمية إقليمية طموحة وشاملة، كما كرر ولي العهد دعوته لهذه الدول في أكثر من مناسبة لتخرج من مرحلة النزاعات والأوهام التوسعية، وأن تتصرف بمسؤولية تجاه شعوبها ومواردها وتجاه المنطقة بأكملها.

وحيث إن السياسة هي فن الممكن فنحن أمام مؤشر إيجابي يتمثل في الخروج التدريجي من مرحلة التكتلات الإيديولوجية التي كانت تتصدر المشهد العربي بشعاراتها وأجنداتها التاريخية وأحزابها ومشاريعها التوسعية، والانتقال إلى مرحلة المصالح السياسية والتنافسية على المؤشرات العالمية للاقتصاد والتنمية، وأعتقد أن ترسيخ هذا المفهوم هو أحد أهم مستهدفات أعمال القمة.

جاءت القمة كذلك تتويجاً لعمل القوة الدبلوماسية السعودية التي نجحت في لم الشمل العربي بعد طول تفرق، ولا شك أن هذا الاجتماع وتحسين العلاقات السياسية بين الدول إنما يرسم ملامح مشروع عربي من المتوقع أن يضع الدول العربية على خريطة طريق تضيء على مواقع قوى جديدة تهيئ الاستحقاق الطبيعي للعرب في تقرير المصير واستثمار الموارد والخلاص من الهيمنة والتدخلات الخارجية.

ونرى أن القمة شددت في بيانها الختامي على توصيات واضحة في ما يتعلق بعدد من الملفات الاقتصادية، وهو أمر يجب أن تتم قراءته من عدة أوجه، نظراً إلى تأثيره المباشر على العمل السياسي العربي والعالمي في المرحلة المقبلة.

كما أن هذه القمة تتزامن مع لحظة نضوج تاريخية يعاد فيها النظر تجاه الممارسات السياسية في المنطقة العربية وتبدي الشعوب العربية إرادة كبيرة لتجاوز الماضي وفتح صفحة جديدة تستفيد فيها من الدروس القاسية التي مرت بها خلال نصف قرن مضى.

ولا نغفل أن السعودية الحاضنة لهذه القمة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك قدرتها على قيادة المرحلة وتمكنت من تذليل الصعوبات لجمع الشمل وردم الفجوات وتحسين فرص السلام والتعاون بين الأشقاء، وكان هذا عنواناً عريضاً ترجمته كلمة ولي العهد الذي أكد أنه ماضٍ في صناعة السلام وحماية المنطقة من التدخلات والاستغلال ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخية.

ختاماً، هذه القمة تمثل انعطافاً تاريخياً في مستوى عمل الجامعة العربية، تخللتها كلمات ومواقف مؤثرة، وقدمت مبادرات اقتصادية طموحة، ونأمل أن تكون فاتحة الخير والتعاون المثمر، كما نأمل أن تنجح المساعي السعودية الرامية إلى استنهاض الوعي العربي لصناعة تغيير سياسي حقيقي في موازين القوى العالمية بما ينعكس إيجاباً على مستقبل المنطقة وأمنها وازدهارها.