مرة أخرى يبرز النجاح السعودي في أبهى صوره، وتتجلى الرغبة والقدرة على حلحلة المشكلات وتصفير الأزمات والسعي الحثيث لجمع الكلمة ووحدة الصف والبناء على نقاط التوافق، والنأي عن أوجه الاختلافات ومسبّبات الشقاق. كل ذلك كان واضحًا في قمة جدة الأخيرة التي جاءت في ظروف حرجة يشهدها العالم أجمع.

هذه المخرجات العظيمة التي شهدناها لم تكن مفاجئة للمتابعين، وكانت متوقعة منذ قبل بدء الاجتماعات، وذلك استنادًا على معطيات عديدة في مقدمتها التحضيرات الجيدة التي استبقتها، حيث وظّفت الدبلوماسية السعودية العريقة كافة إمكاناتها المهولة للوصول إلى هذا الهدف، ولم تترك شاردة ولا واردة إلا وأوفتها حقها كاملًا من التحضير، فتم تنظيم جولات استباقية عديدة قبل وقت كاف، تم فيها نزع فتيل الخلافات وتقريب وجهات النظر حتى تم الوصول إلى توافق كبير مهّد الطريق نحو تحقيق هذا النجاح.

وكانت رئاسة الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - لأعمال القمة نيابة عن خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - عاملا رئيسيا في ما تحقّق، وذلك لقدراته الفطرية العالية على حشد المواقف وترتيب الصفوف واستثارة حماس الآخرين واستنفار طاقاتهم، فلم يعرف عنه طوال مسيرته أنه تسلّم ملفا إلا وكان النجاح الباهر حليفه. كذلك يمتاز سموه بمخاطبته المباشرة للمشكلات وطرحها بمنتهى الوضوح والصدق بحثا عن الحلول دون إضاعة الوقت في مناورات تؤخر ولا تقدم، أو الميل لأساليب الطبطبة والمجاملات التي تسبّبت في تفاقم العديد من الأزمات التي كان يمكن أن تجد حلولا ناجعة لو تمت مواجهتها بشفافية.

بهذه النظرة الشاملة استطاع سمو ولي العهد السعودي السير بالاجتماعات وسط أمواج متلاطمة من المستجدات والتحديات، وسخّر قدراته الهائلة والكاريزما العالية التي حباه بها الله تعالى حتى جاءت النتائج النهائية بحجم التطلعات لتحقق نجاحا باهرا ونتائج مبهرة تضاف إلى السجل السعودي المشرق في هذا المجال.

هذا الأسلوب العملي الذي يميل للإنجاز يمتزج لدى سمو ولي العهد بالنظرة الثاقبة والطموح والثقة في النفس، وهو ما يتجلى في تصريحه اللافت الذي ختم به القمة العربية الصينية التي عقدت أوائل شهر ديسمبر الماضي عندما قال «نؤكد للعالم أجمع أن العرب سوف يسابقون على التقدم والنهضة مرة أخرى، وسوف نثبت ذلك كل يوم»، حيث جدّد ثقته في قدرة الدول العربية على قطع أشواط كبيرة في طريق النماء، وهو تأكيد عملي على أن القائد الناجح الذي يصلح أن يكون قدوة هو ذلك الذي يؤمن بقدرات أمته ويستنهض همة أبنائها ويستنفر طاقاتهم ويفتح أمامها أبواب الأمل على مصراعيها.

وبالنظر إلى مخرجات القمة وما تضمّنه إعلان جدة نجد أنه قد شمل كل القضايا ذات الاهتمام، فإضافة إلى حلحلة الأزمات وتأكيد الموقف العربي الثابت من القضية الفلسطينية، والدعوة لتفعيل الجهود الرامية لإعادة الاستقرار إلى السودان واليمن وسوريا وليبيا وغيرها من مناطق النزاعات، فقد أولى أهمية كبرى لقضايا التنمية، فقد دعا الإعلان في أكثر من موقع لتعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول العربية، وزيادة تكاملها الاقتصادي مع الحلفاء الإقليميين والدوليين، لا سيما في ظل التكتلات العالمية والأزمات التي أفرزتها الحرب في أوكرانيا.

كذلك كان لافتا بشدة الاهتمام الكبير الذي حظيت به القضايا المتعلّقة بحقوق الإنسان وربطها بقضايا التنمية، حيث أكد البيان أن التنمية المستدامة، والأمن، والاستقرار، والعيش بسلام، هي حقوق أصيلة للمواطن العربي، ولن يتحقق ذلك إلا بتكاتف الجهود وتكاملها، ومكافحة الجريمة والفساد بحزم وعلى كافة المستويات، وحشد الطاقات والقدرات لصناعة مستقبل قائم على الإبداع والابتكار ومواكبة التطورات المختلفة، بما يخدم ويعزّز الأمن والاستقرار والرفاه.

كما عبّر الإعلان عن التزام الدول الأعضاء واعتزازها بالقيم العربية الأصيلة والثقافة القائمة على الحوار والتسامح والانفتاح، وعدم التدخل في شؤون الآخرين تحت أي ذريعة، مع احترام قيم وثقافات الآخرين، وسيادة واستقلال الدول وسلامة أراضيها.

كذلك اعتبر إعلان جدة أن التنوع الثقافي هو إثراء لقيم التفاهم والعيش المشترك، وأكد الرفض القاطع لهيمنة ثقافات دون سواها، واستخدامها ذرائع للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية. مع ضرورة تعزيز المحافظة على ثقافتنا وهويتنا العربية الأصيلة لدى أبنائنا وبناتنا، وتكريس اعتزازهم بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا الراسخة، وبذل كل جهد ممكن في سبيل إبراز موروثنا الحضاري والفكري ونشر ثقافتنا العريقة لتكون جسرا للتواصل مع الثقافات الأخرى.

لذلك فإن من أبرز ما اتسم به إعلان جدة هو أنه لم يكن مجرد إعلان مبادئ عامة، بل يمثّل خارطة طريق إستراتيجية لتطور الدول العربية وازدهارها، لأنه حدّد المشكلات التي تعاني منها الأمة ووصف كيفية التغلب عليها. فقد شدّد الإعلان على ضرورة الحد من التوترات الإقليمية لتحقيق التنمية والنهضة الاقتصادية، وهو المبدأ الذي تنطلق منه السعودية والذي نصّت عليه رؤية 2030 وأكدت بوضوح أنه لا يمكن تحقيق النمو والتطور إلا في ظل وجود بيئة إقليمية مستقرة، فعالمنا اليوم متشابك الحدود ويتشارك المهدّدات، فما تشهده أي دولة في المنطقة لا شك سيؤثر على بقية الدول.

مما يبعث الأمل في النفوس بأن تنعكس هذه القيم والمبادئ على واقع دولنا العربية هو ما شهدناه من أجواء التفاؤل التي أفرزتها قمة جدة، ومستوى التمثيل العالي، وما عكسته كلمات الملوك والرؤساء من حتمية تجسيد التضامن العربي والرغبة في إنهاء الصراعات والخلافات وطي صفحة الماضي وتجاوز المرارات، وهو الطريق الذي لا بديل عنه إذا أردنا لنفسنا ولأجيالنا المقبلة مستقبلا أفضل. ‫