أولت الصحوة أهمية كبيرة للتفاصيل اليومية للناس العاديين، فإحدى المطويات التي أتذكرها تبدأ بعبارة «حاسب نفسك قبل أن تنام»، ثم توضح للقارئ طبيعة المحاسبة، فمثلا الرجل التي قدمها للدخول إلى دورة المياه، والرجل التي قدمها عند الخروج، والجنب الذي نام عليه، وممارسات يومية أخرى لا تأخذ في اعتبارها أركان الإسلام الأساسية، ولا حاجات الفرد الأساسية الأمنية والاجتماعية، وتقدير الذات وتحقيقها.

فضلا عن ذلك، اهتمت الصحوة بالتفاصيل الصغيرة التي تتعلق بالأطفال، وأهم ما اهتموا به، وله علاقة بالطفل، هو عذاب القبر، وتحويله إلى أداة في أيدي الوالدين والمعلمين، لكي يتحكموا في الطفل. وربما تضيء هذه الحكاية جزءا مما أعنيه، فذات مرة كنت وعائلتي في زيارة لحديقة الأنعام في جدة (أيام كانت في مدخل شارع التحلية)، ووقفتُ أمام ثعبان ضخم.. ليس بعيدا عني هناك عائلة أخرى تشاهده.. أظن أنها أم تمسك بيد طفل، ومنهمكة في شرح شيء ما له، مشيرة إلى الثعبان. أصبح هناك فراغ لكي أكون أقرب للثعبان وللمرأة، فشغلته، وأصبحت أسمع المرأة تتحدث للطفل عن عذاب القبر، وعن الشجاع الأقرع، وعما يمكن لهذا الثعبان فعله به إذا لم يصل، ولم يسمع كلام والديه.. إلخ. بطبيعة الحال هناك وسائل أخرى، ففي إحدى المدارس الابتدائية حفر المعلم قبرا في فناء المدرسة، واضطجع فيه الطلاب واحدا تلو الآخر، باعتبار ذلك وسيلة تعليمية، وفي مدرسة أخرى كفّن المعلم طالبا، وحمله الطلاب، محاكاة لحمله إلى القبر. بينما تفننت أشرطة «الكاسيت» الإسلامي في استخدام خلفيات مرعبة، حيث سمعت شريطا منها يتحدث عن عذاب القبر، وحين وصل الداعية إلى الشجاع الأقرع دوت أصوات خلفية «زئير وعواء وأنين».

يحدث هذا تحت مرأى ومسمع المؤسسات التربوية والتعليمية، ولم نجد أي كلمة تجاه أنه من حقوق الطفل أن يتمتع بطفولته، وأن يعيشها بلا خوف.

كان المستهدفون من هذه التفاصيل عامة الناس، بمن فيهم الأطفال، وفي برامج لأشهر الدعاة أتذكر أن أحد الدعاة سئل عن المستهدفين من برنامجه «حجر الزاوية»، فأجاب:

الناس العاديون الذين يحتاجون إلى جرعة دينية، وقال بالنص: «الذين يسمعون الكلام، ويأخذونه بجدية»، ولا يمكن أن يكون كلامه جزافا، فالعامة خطرون جدا، لذلك فهم المفضلون للتنظيمات الأيديولوجية. وقد ناقشت ذات مرة مهتما بهذه الفئة، أعني الأطفال، وغير المنتمين إلى تيارات دينية، وعامة الناس، وغير المتدينين، فقال لي إن هؤلاء يجهلون الإسلام الحق، ولو أنهم عرفوه حق المعرفة، لأصبحوا أفرادا صالحين. وقد اُتيحت لي الفرصة لأعرف شبابا وقعوا في هذا الفخ. وبمعرفة تاريخهم الشخصي، فقد كانوا شبابا عاديين يبحثون عن معنى لحياتهم، وقد وجدوا فيما قاله الدعاة المعنى الذي يريدون، حيث وجدوا فعلا في كلامهم كيانا أكبر من أنفسهم، وحملوا قيمه.. وجدوا النموذج الكامل في ذاته الذي تبحث عنه أعمق الرغبات البشرية، لكي ينظم التجارب الماضية والحاضرة والمستقبلية والفعلية والممكنة. هذا النموذج دائما ما يعبر بـ«كان في يوم من الأيام»، كما يقول المفكر أشعيا برلين عن هذا النموذج. وهكذا عند هؤلاء العامة المقتنعين والمصدقين كان الإسلام في يوم من الأيام مطبقا.. كان المسلمون في يوم من الأيام حريصين على دينهم.. كان للإسلام في يوم من الأيام حضارة أنارت العالم وأخرجته من الظلام.. في يوم من الأيام سيعود الإسلام كما كان. ومن أجل أن يعود، تحوّل هؤلاء إلى أدوات ساحقة، يواجهون المختلف عنهم، الذي لا يؤمن بأفكارهم، كما لو أنهم في حرب، يعادون كل ما يحيط بهم، ويدربون أنفسهم، ويعدونها وفق هذا الشعور. كل هذا وأكثر بسبب تلك التفاصيل الصغيرة التي ركزت عليها الصحوة. وكما قال توكيفيل مرة، فالاستبداد في التفاصيل أفظع مما يمكن أن نظن من الاستبداد في القضايا الكبيرة.

يظهر الدعاة والوعاظ المؤدلجون المرونة الكافية في مواجهة الظروف.. يطأطئون إلى أن تمر العاصفة، وكثيرا ما طأطأ هؤلاء رؤوسهم حين يجدون أنفسهم في مأزق، ونحن نعرف ما حدث بعد أحداث الحادي عشر من ديسمبر، وتحولهم المفاجئ إلى برامج التدريب على التنمية الذاتية، فتحولوا إلى مدربين، وبدأوا يظهرون في البرامج التليفزيونية ووسائل التواصل. ولأن مجتمعنا الطيب يمكن أن يُلدغ مرتين، فقد وقف في طوابير طويلة، انتظارا لتلك البرامج، ولأنه لا يرى الأفعى بل يرى الحبل، فقد تمسك بحبالهم.

إنها دعوة صريحة ومباشرة، دون لف أو دوران، حتى لا يلدغ مجتمعنا مرة أخرى، فالجمر ما زال حيا تحت الرماد، والهدوء دائما ما تخفي فيه الثعالب مفاجآت غير متوقعة.. هناك حضن خصب، ففي نقطة ما من التحولات الاجتماعية مثلما يحدث في مجتمعنا يظهر غرباء يبحثون عن انضباط ديني، ويشككون في التحولات، ويرون فيها نية مبيتة للقضاء على الدين. ولأنهم لا يجرؤون على التصريح، فإنهم بدل أن يتحدثوا عن حجاب المرأة يتحدثون عن عفتها وحشمتها، وبدل أن يتحدثوا عن الجهاد يمكنهم أن يجروا حوارا مع جهادي يسألونه عما دمر وعما قتل، وهل شعر بتأنيب ضمير. يمكن لهؤلاء أو أتباعهم أو مؤيديهم أو المتعاطفين معهم أن يقترحوا البرامج الحوارية المفصلة، بحيث لا يدعون مباشرة إلى ما يريدون، بل إبقاء الفكرة التي يريدونها في ذاكرة المجتمع.

إن المقارنة بين الصراع في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، والعقدين الأولين من هذا القرن تُظهر أن الصراع الأول كان صراعا على الدين، ومع تنظيمات معروفة. أما الآن فالصراع على السلطة، ومن أمكنة مختلفة، وبأدوات ووسائل جديدة. وإذا كان شكل الصراع فيما مضى هو التدمير، فإن شكل الصراع الآن هو التشهير الذي تدعمه وسائل التواصل الاجتماعي، فالتشهير بهذا وذاك نزالات صغرى تمهد لنزالات كبرى لا أحد يعرف كيف تكون، ولا أين، ولا متى.