حين يرحل حبيب، نقول له: (لا تبعد)، إذ ما زلنا نحمل نعشه على أكتافنا، لكننا حين نواريه الثرى، نصحو لنتذكر مالك بن الريب وهو يقول: «يقولون لا تبعد، وهم يدفنونني/ وأين مكان البعد إلا مكانيا».

لهذا أعود إلى نفسي لأسألها عن معنى قولنا للميت: (لا تبعد)، فأجدها -في بداهة أولى- تعود إلى الاعتقاد أن الموت فكرة، لكن هل إذا قلنا: (إن الموت فكرة)، نلغي حقيقة وجوده؟ أو وجود ما بعده؟

هذا سؤال متعلق بالوعي/الحياة، وليس بما بعد الوعي/الموت نفسه، وهذه قد تكون مفارقة.

لكن إذا تصورنا أن ثمة رأيين؛ الأول يربط الموت بسؤال: من نكون وإلى أين نمضي؟! والثاني يربط الموت بمعنى الحياة نفسها، أي ما معنى حياتي، طالما أني سأفنى؟!

فإن هذا قد يدل على أن الموت ينطوي على مفارقة، أي إن علاج الموت، هو نسيانه بالحياة، وهذا معنى أن يواصل الإنسان الحياة على الرغم مما يواجهه من يأس وفقد.

فموت حبيب، لا يعني عدم إنتاج محبيه في الحياة، بل قد يعني إنتاجاً لا يستحضر معنى الحياة ككل، إذ دائماً في زوايا التفاصيل الصغيرة سعادة مخبوءة، ونعرف -كلنا- أسطورة سيزيف التي يستشهد بها ألبير كامو على عبثية الحياة، وانتفاء معناها، إذ كان العقاب الإلهي لسيزيف بأن يدفع صخرة إلى الأعلى، وما إن يصل إلى القمة حتى تسقط الصخرة إلى الأسفل من ثقلها، ثم يعود سيزيف ليكرر المهمة بلا نهاية، لهذا قضى حياته في تلك العقوبة الأبدية.

والسؤال: ماذا لو دفع سيزيف حصيات صغيرات تتفق مع تفاصيل حياته؟

ربما ستتغير الحياة برمتها؛ لأن سيزيف حينها غير نمط الحياة، فتغير المشهد كاملاً، وصخرة سيزيف تحيلنا إلى لافونتين -الشاعر الفرنسي الذي عاش في القرن الـ17- إذ كان يرى عبثية الحياة، ثم هي ذاتها الموت.

وله حكاية بعنوان (الموت والحطاب)، أسقط فيها رؤيته بأن الحياة ما هي إلا الموت نفسه، لأن الإنسان يشرع في الموت منذ ولادته.

لكن السؤال: كيف تتحول فكرة الموت إلى طاقة دافعة للحياة؟ ربما ذلك معقود برؤية الإنسان نفسه، فقد يأتي من يتلذذ بوجوده الخاص بعيداً عن صخب حياة الناس، وعلاقاتهم الفعلية، بل يرتبط بهم في صناعة الذاكرة الخاصة معهم، ومن هنا يكون تقبله لفكرة الموت من واقع حياته الخاصة التي لم تعقد بروابط حياة الناس الفعلية.

وقد يأتي من يشارك الناس وجودهم الفعلي، لكي تكون الحياة العملية هي الوسيلة لنسيان الموت، أي إنه ينسى شخصاً بشخص آخر، وهذه شرطها أن يفرق بين التعلق والعلاقة؛ الأول يجره للماضي، والثاني يدفعه للمستقبل. وثمة مقولة نستذكرها في هذا السياق تقول: «لا يحيا فعلاً، إلا من يقبل الموت». تصف المقولة إمكانية أن يكون الموت غير موجود، أي إنها تدخله في دائرة الحياة وإمكانية السعادة، والالتذاذ، وهذه تنقلنا لمقولة أخرى تكمل فهمنا لهذا السياق: «لو كان الموت غير موجود، لما استحقت الحياة أن تعاش»، فلو كان الموت غير موجود لما كان للسعادة أي معنى، لذلك قال الفيلسوف أبكتيتوس: «تباً لحياة لا تنتهي بالموت».

وهناك نماذج متعددة بحسب مستويات التفكير في تصور معنى الموت، فقد يعبر عنه بسؤال: «أين الذين سامرتهم وضحكت معهم بالأمس؟» فهؤلاء الجالسون معه عنوان العلاقة، وبين رؤيتهم بالعين ورؤيتهم بالذهن بعد فنائهم، مسافة قصيرة لكنها خطرة، تربك تفكير الإنسان مهما كان مستوى وعيه، وفي تجارب الطفولة علامات.

وهذا السؤال-أعني أين الذين سامرتهم؟ معقود بالتفكير بآخر، كيفما كانت العلاقة، لكن ماذا عن التفكير بحياة الإنسان نفسه، بوعيه هو في لحظة من اللحظات؟

فهل من يقرأ -مثلاً- لمحمود درويش أو ميشيل فوكو، يفكر بهما، ثم إنهما حيان بين يديه، وبمعنى آخر هما حيان بوعيه لحظة القراءة، ثم سيكونان أمواتاً بوعي غيره ممن لا يقرؤون لهما لحظتها؟ ومن هنا سيكون الموت مجرد فكرة، لا يغيب أحد بشكل مطلق، ما دام هناك وعي يستحضره، فها هي الحكايات تستحضر الماضين.

وهذا الاستحضار هو ما يحيلنا إلى فكرة ما بعد الموت، الذي قد يعبر عنها بالصمت الأبدي.

وكل ثقافة تعطيها اسماً خاصاً بها لتفرق بين مرحلتين تفريقاً تاماً، أما اسمها العام الذي يجمع الثقافات كلها فهو (ما بعد الموت)، وكأنه مشروع للتفكير الجماعي عن المشترك وهو الوعي.

فما الذي يجمع بين وعي الـ(قبل) ووعي الـ(بعد) إن كان ثمة وعي بعدي؟ ليس أمامنا في حضرة الغياب إلا وعينا بالغائب، لكننا نفقد وعيه بنا.

لذا قد يكون الخوف من فكرة الموت ارتبط بالذهاب للمجهول، أي لتصور مكان فيه وعي بلا جسد، وليس بالصمت الأبدي.

وربما فكرة غياب الجسد مؤرقة، حيث إن الجسد علامة الوجود، لهذا نتساءل: أين نذهب؟

وكيف سأعرف حين أصحو في وعي جديد؟ ومن أعرف؟ وماذا سأفعل؟

‏لكن السؤال الذي يتسق مع مصطلح (ما بعد)، فهو على شقين؛ الأول: هل الوعي ذاته يتكرر؟ هل هو نفسه لو صحا في مكان آخر؟

والشق الثاني: هل الموت سيرورة ضرورية لحيوات متصلة؟ ثم على الإنسان أن يكون خيّراً، كي يوصل الحياة بحياة خيّرة؟

التفاتة:

يقول كيركيغارد: «حين يكون الموت أعظم الأخطار، فإن الإنسان يأمل الحياة، لكن حين يكون الإنسان في خطر أكثر رعباً، فإنه يأمل الموت».

التفاتة عن الالتفاتة:

ربما لا شيء يوصلنا إلى نهاية القلق إلا سكينة الجسد، ولا يحدث هذا إلا حين نموت.