عرفت فيما مضى من الأيام أديبًا كان من أكبر أدباء هذا البلد الضليعين باللغة وفنونها، الحافظين للكثير الممتع من منظومها ومنشورها، وكأنه لا يكتب كلمة فى صحيفة ولا ينشر في الناس كتابًا إلا أعجم كتابته وأبهمها، وتعمل فيها تعملا يأخذ على القارئ عقله وفهمه، فلا يدری أی سبيل يأخد بين مسالكها وشعابها.

وكنت أحسبها غريزة من غرائزه الغالية عليه الآخذة من نفسه مأخذ الطبيعة الثابتة، والملكة الراسخة فلا سبيل له إلى التخلص منها والنزوع عنها، حتى اطلعت له عند بعض أصدقائه على كتاب صغير كان قد أرسله إليه في بعض الشئون الخاصة به، وكتبه بتلك اللغة السهلة البسيطة التي يسمونها اللغة العادية، فأعجبت بأسلوبه في كتابه هذا إعجابًا كثيرًا، ورأيت أنه أبلغ ما قرأت له في حياتى من كتب ورسائل، وعلمت أن الرجل أصبح بفراسته قادرًا على الإبانة من إعراضه ومراميه کأفضل ما يقدر مقتدرعلى ذلك، إلا أنه يتكلف الركة والتعقيد في كتابته تكلفًا ويأخذ نفسه بما أخذ.

ولو أنه أرسل نفسه على سجيتها تكتب جميع رسائله ومؤلفاته بتلك اللغة الجميلة العذبة التي كتب بها كتابه هذا، لكان من أعلم الكتاب شأنًا وأكثرهم نفسًا وأرفعهم صوتًا في عالم الكتابة والأدب، ولكن هكذا قدر لنا أن يقضي بنفسه على نفسه حتى مات -رحمة الله عليه- فماتت بموته لفتاته وآثاره.

وقرأت منذ أيام لأحد الشعراء المتكلفين ديوان شعر فلم أفهم منه غير خطبته النثرية ولم يعجبني فيه سواها، وما أحسبها أفلتت من يده ولا جاءت على هذه الصورة من الجودة والحسن إلا لأنه أغفل العناية بها والتدقيق في وقعها، فأرسلها على الخاطر إرسال من يعلم أنه إنما يسأل عن الإجادة في الشعر لا في النثر، وأن الناس سيغتفرون له ضعف الكاتب أمام قوة الشاعر، غير عالم أنه كاتب من أفصح الكتاب وأبينهم، ولو شاء لكان شاعرًا من أقدر الشعراء، وأنه ما أحسن إلا حيث ظن الإساءة، ولا أساء إلا حيث ظن الإحسان.

والله ما أدري ما الذي يستفيده بعض كتابنا وشعرائنا من سلوكهم هذا المسلك الوعر الخشن في أساليبهم الكتابية والشعرية، وتكلف الإغراب والتعقيد فيها، وهم يعلمون أنهم إنما يكتبون للناس لأنفسهم، وأن الناس خصوصًا في مثل هذا العصر عصر المدنية والعمل والحركة والنشاط أضن بأنفسهم وبأوقاتهم من أن يقفوا الوقفات الطوال أمام بيت من الشعر يعالجون فهمه، أو سفر من النثر یعانون كسر صخور ألفاظه من مخبآت معانيه.

ولم لا يؤثر أحدهم إن كان يكتب للمنفعة العامة الملامح أن يستكثر من سواد المنتفعين بعلمه وفعله، أو للشهرة والذكر أنه ينتشر له ما يريد من ذلك بين جميع طبقات الأمة عامتها وخاصتها جاهلها وعالمها، وهل الشعر والكتابة إلا أحاديث سائرة، يحادث بها الشعراء والكتاب الناس ليقفوا إليهم بخوطر أفكارهم وسوانح آرائهم وخلجات نفوسهم.

وهل يعنى المتحدث في حديثه شيئًا سوى أن يعي عنه الناس ما يقول، وأن يجد بين يديه سامعًا مصغيًا ومقبلا محتفيًا؟ وأی فرق بين أن يجلس الرجل إلى جمع من أصدقائه ليقص عليهم بعض أراء، فيتلطف في تفهمهم وإيصال معانيه إلى نفوسهم واجتذاب ميولهم وعواطفهم، وبين أم يجلس إلى مكتبه ليبعث إليهم بهذه الأحاديث نفسها عن طريق القلم، ولم لا يعنيه في الحالة الأخرى ما يعنيه في الحالة الأولى.

ما أشبه الجمود اللغوي في هذه البيئة العربية بالجمود الديني، وما أشبه نتيجة الأول بنتيجة الآخر، لم يزل علماء الدين يتشددون فيه ويتنطعون ويقتطعون من هضبته الشماء صخورًا صماء يضونها عقبة عثرة في سبيل المدنية والحضارة حتى صيروه عبئًا ثقيلا على كواهل الناس وإعتاقهم فمثله الكثير منهم، وبرموا به وأخلوا يطلبون لأنفسهم الحياة من طريق غير طريقه، ولو أنهم لانوا به مع الزمان وصروفه وتمسكوا بأحكامه وأوامره مع شؤون المجتمع وطلباته لاستطاع المسلمون أن يجمعوا بين الأخذ بأسباب دينهم والأخذ بأسباب دنياهم.

ولم يزل جماعة اللغويين وعبدة الألفاظ والصور يتشدقون في اللغة ويتحذلقون، ويتشبثون بالأساليب القديمة والتراكيب الوحشية، ويغالون في محاكاتها واحتذائها، ويأبون على الناس إلا أن يجمدوا معهم حيث جمدوا.. وينزلوا على حكمهم فيما أرادوا، وهم يحاسبون الكالين والناطقين حسابًا شديدًا على الكلمة الغريبة والمعنى المبتكر، ويقيمون المناحات السوداء علي كل تشبيه لم تعرفه العرب، وكل خيال لم يمر بأذهانهم حتى ملهم الناس وملوا اللغة معهم فتمردوا عليهم وخلعوا طاعتهم وطلبوا لأنفسهم الحرية اللغوية التامة في جميع مواقعهم وعلاقتهم فسقطوا في اللغة العامية في أحاديثهم، وشبيه العامية في كتاباتهم.

وكادت تنقطع الصلة بين الأمة ولغتها لولا أن تداركها الله برحمته فقيض لها هذا الفريق العامل المستنير من شعراء العصر وكتابه الذين عرفوا سر البيان وأدركوا كنهه فاتخذوا لأنفسهم في مناحيهم الشعرية والكتابية أسلوبًا وسطًا معتدلا جسرًا فيه بين المحافظة على اللغة وأوضاعها وأساليبها وبين تمثيل روح العصر وتصوير أسرار الحياة، ولولاهم لبقيت اللغة في أيدي الجامدين فماتت.

1912*

* كاتب مصري « 1876 - 1924»