كتب أحد الزملاء متسائلا: «ماذا سيحدث مستقبلا لكل نتاجنا الثقافي والأدبي، وهل سيبقى منه شيء بعد آلاف السنين؟».. هذا السؤال المقلق واحد من الأسئلة الوجودية الكلاسيكية التي لا يخلو منها عقل متفلسف متأمل، إنه سؤال كبير عن المعنى وراء الأشياء، والقلق من الفناء، وغني عن القول إن منطق الفلسفة درج على اعتبار الزوال معضلة وصفة سلبية في طبيعة الأشياء.

إلا أن هذه المخاوف لا تقتصر على الفلاسفة والشعراء، بل هي مشاعر غريزية تلازم المخيلة البشرية، عالجت الأديان عمومًا فكرة الزوال بطرق شتى، ومع أنها لم تقدم للإنسان طريقة مؤكدة للبقاء الأبدي في الحياة برفقة أحبته وممتلكاته ومنجزاته، إلا أنها وعدته بخلود الروح في حياة أفضل إذا تخلص من الخطايا والشرور خلال عبوره مرحلة العالم الفاني.

مر الكاتب الروسي ليو تولستوي في العام 1878 بحالة اكتئاب غيرت حياته حينما راوده هذا التساؤل الكبير، كان تولستوي قد بلغ الخمسين من عمره، وقد حقق شهرة كبيرة وثراء واسعًا بعد نشر روايتيه (الحرب والسلام) و(أنا كارنينا)، كما أنجب تسعة أبناء من زوجته المحبة، وحظي بمكانة اجتماعية مرموقة، لكنه لم يكن منسجمًا مع كل هذا الواقع الذي لا يفهم معناه ولا يطمئن إلى استمراره، بحث عن إجابات مقنعة لدى العلم والفلسفة ولم يجد، كما أنه لم يجد طمأنينة في الأثر الذي تمثله رواياته الخالدة أو ذريته المميزة، لا شيء كان يمثل له الأبدية، ولأنه كان متأثرًا بالنزعة الأفلاطونية نحو الخلود فمن وجهة نظره كان الشيء الوحيد الذي لا يحطمه الموت هو الاندماج مع اللا نهائي وهو الله، وبعد فترة من التأمل قرر الابتعاد عن صخب المجتمع واعتزل في أحد الأديرة متقشفًا متحررًا من الوجود، حتى إنه اعتزل الكتابة وهجر أسرته.

ما جدوى الأشياء ما دامت تحدث ضمن حتمية الزوال؟ ولماذا نكلف أنفسنا أصلا عناء إحداثها؟

لدى فيكتور فرانكل صاحب كتاب (الرجل يبحث عن المعنى) رأي آخر، فهو يعتقد أن التغير والتطور في العالم مرتبط أصلا بفكرة النهاية، لا يوجد أي دافع غير الموت يمكن أن يشجعنا على إكمال أعمالنا وخططنا للحياة، فلماذا سنحرص على الحصول على شهادة جامعية الآن إذا كان يمكننا الحصول عليها بعد ألف عام؟، كما أن إنجازًا صغيرًا يقوم به أحدنا اليوم قد يكون ركيزة لأشياء أكبر.

أما جين كازيز صاحبة كتاب (أهمية الأشياء) فتطرح نموذجًا آخر للبقاء يتمثل في الاهتمام بشيء ما خارج ذواتنا المحدودة ومحيطنا الصغير، فهي تعتقد أن اهتمامنا بالأعمال الخيرية والإغاثية أو ممارسة هواية تحقق لنا الشغف للإبداع كالرسم أو العزف وغيرها هي طرق ناجحة للثبات والهروب من التلاشي كأننا لم نكن، إن ممارسة شغفك وفقًا لرأي كازيز يجعلك متصلا بالوجود فاعلا فيه للأبد.

في الحقيقة نحن لا نملك إجابات نهائية حول الأبدية، ولكننا نعلم تمامًا أن الماضي هو سجل موجود لكل الأحداث التي مررنا بها، وأن ما حدث لنا سيبقى محفوظًا ولن يزول، ربما يكون في هذه الحقيقة الواعية عزاء كبير، فنحن على الأقل يمكننا أن نؤكد وجودنا الحالي، وأن نستفيد من الخيارات المتبقية لدينا، ونستشعر تأثيرها اللحظي، ونتخيل ما يمكن أن يتراكم عليها كلما اتسع الزمن.