ما أكتبه هنا ليس نقدا. أكتب وجهة نظر قارئ عادي وليس قارئا خبيرا بهذا النوع. ليس أكثر من انطباع أولي وقد قرأت أغلب السير الذاتية السعودية. بدءا يمكن أن تكون كتب السيرة الذاتية التي نمت بشكل ملحوظ في مجتمعنا الثقافي في السنوات الأخيرة ذات دلالة على أن الضمير (أنا) الذي كان الناس يتعوذون من قوله لم يعد كذلك. فقد أصبح الفرد يستطيع أن يقول (أنا) من دون يعتريه الحرج، ومن دون أن يكون تحدثا ممجوجا عن النفس، وهذا في حد ذاته جيد؛ أعني وصف الذات لذاتها.

لكن الملاحظ أن هذه السير الذاتية تفتقر إلى الابتكار والإبداع. فهي مكتوبة من منظور تاريخي بالمعنى الذي يجعلها ترتيبا زمنيا للأحداث. مجرد شبكة يفسرها ترابط بسيط للعقد التي تتشكل منها. فالشبكة مجموعة عقد. هناك عقدة تسمح بربطها بشبكة أخرى، وهذه تسمح بربطها بثالثة. وهكذا فالشبكة ليست أكثر من عمليات وصل بدائية بين العقد، وتكثيرها ليتشكل مجمل الشبكة. وعلى النظير من ذلك؛ فالسيرة الذاتية بالمنظور التاريخي الزمني المرتب مكونة من عقد، تشكل هذه العقد مراحل نمو الشخصية؛ فالطفولة عقدة، تسمح بربطها بعقدة أخرى هي الشباب، وهذه تسمح بربطها بعقدة أخرى هي الكهولة. وهكذا.

يمكن أن تتخذ السيرة الذاتية من هذا النوع عقدا لا تحصى. هناك عقد المراحل الدراسية، وعقد المراحل الاجتماعية، وأخرى كالانفعالات، والصراع مع الأفراد أو المجتمع .. وهذه الصور المتعددة للعقد لا تتجاوز الترابط البدائي، وبالتالي فإن صورة النمط العقدي الأساسية لا تتغير. وحين أصف (الترابط) في هذا النوع من السير الذاتية بالبسيط والبدائي فإنني أعني ما تتضمنه من إجابات عن أدوات استفهام تتعلق بالفعل من نوع: ماذا، ومَن، ولماذا، وكيف، وإحالتها المباشرة إلى الفاعل والهدف من الفعل، والوسيلة والظرف، والمساعدة والتعاون، أو الصراع والعدوان... إلخ. بالفعل هناك ترابط بدائي في هذا النوع من السير الذاتية لارتهانها لأدوات الاستفهام التي لا تجيب إلا عن وجود الكائنات الإنسانية كمن وكيف ولماذا وهي تغرق في الأحداث، فتصبح السيرة مجرد سرد ثانوي، واستمرارا لهذا النوع من السرد غير المروي. وهنا يمكن لمفهوم الفيلسوف الفرنسي بول ريكور عن (المحاكاة 1) في دراسته عن الحبكة والسرد والزمان أن توضح الفكرة التي أتحدث عنها؛ ففي هذا المستوى الأول من المحاكاة لا يغادر الكاتب الحياة اليومية، وتميل رؤيته إلى أن ترى تتالي الأحداث في الحياة بوصفها (قصص لم ترو بعد) مع ما في هذه العبارة من تناقض. لذلك فرأيي هو أن سيرنا الذاتية كما لو كانت سيرا لو ترو بعد. وسير كهذه سير بدائية لا تهتم بالابتكار ولا بالإبداع. وهي مكتوبة وفق المألوف الذي تلخصه عبارة (ولدت وعشتُ) بترابط عقدها. فضلا عن ذلك فقد كُتبت في ضوء ذات جوهرية هي (أنا) أو بالأحرى وفق سيرة حياة هي (حياتي أنا)؟

ليس سهلا أن يكتب الفرد سيرة مختلفة؛ لأن لا شيء في طبيعة السيرة الذاتية كنوع أدبي يخفف من اضطهاد المجتمع، بينما يوجد ذلك في طبيعة الرواية والقصيدة؛ فكون الرواية والقصة في تصور المجتمع العام خيالا فهذا ما يبرر كتابتها، لأن الخيال في تصور المجتمع ضد الواقع. أما ما هو موجود في طبيعة السيرة الذاتية في تصور المجتمع فهو أنها توثيق مما يجعلها واقعا. لكن هذا التصور لا يتواءم مع طبيعة السيرة كنوع أدبي. هذا ما يبدو لي؛ لأنني أرى أن وظيفة السيرة الذاتية الجوهرية هي الربط بين حدث شخصي وبين مقصده الإنساني؛ فحين يهتم كاتب السيرة الذاتية بحدث شخصي أو تجربة معينة شخصية فإن هذا الاهتمام يتضمن سؤالا هو: لماذا يستحق هذا الحدث الشخصي أن يُحكى؟ ما أهمية هذه التجربة الشخصية لكي أحكيها؟ وبهذا يمكن النظر إلى السيرة الذاتية من ناحية معرفية على أنها تنتج معرفة مستخدمة في ذلك بنيتها السردية أو الجمالية، وهذه البنية تحتاج إلى ترتيبات شكلية معينة كاختيار الأحداث والتجارب الشخصية، وتنظيمها. ويمكن القول إن أسئلة السيرة الأساسية كنوع أدبي هي أسئلة تنتمي إلى الأدب وليس إلى التاريخ، إلى الإبداع وليس إلى التقليد، إلى الابتكار السردي وليس إلى التوثيق التاريخي، وهذا يعني أن السيرة الذاتية ليست سيرة ذات إنما بناء ذات، وليست سيرة حياة إنما تركيب حياة.

من هذا المنظور، وفي السيناريو الذي أتخيله لكتابة السيرة الذاتية فإن سؤالي البداية هما: ما الذي يمكن أن يقوله كاتب السيرة الذاتية ولم يقل من قبل؟

كيف يمكن أن يقول ما قاله آخرون أكثر موهبة منه؟

يعني هذان السؤالان أن السيرة الذاتية بناء وتركيب. فالحياة لا تتكرر حتى في الكتابة. وهي نهر من الأحداث تحدث وتختفي. كل حدث كومضة. الحياة خيوط منفلتة، وليست خطا مستقيما، وما هو متاح أمام كاتب سيرته الذاتية هو أن يخترعها من جديد، فيربط رقعة بأخرى، ويحبك خيطا بآخر.

إن الفرق بين حياة الفرد وسيرته الذاتية المكتوبة هي فرق في الشكل الذي يقتضي ترتيبات معينة كبطء السرد في مكان، وسرعته في مكان آخر، وإيراد الأحداث والتجارب من دون الترتيب التاريخي لأنه هذا عمل التاريخ والمؤرخ، إنما بالترتيب الذي يحملان معنى للفرد. إنني أرى أن تصور الإنسان في السيرة الذاتية كحالة نفسية لم يعد مجديا بسبب تقدم الطب النفسي، ومع ذلك فإن المرء قد يجد فيه كحالة نفسية ما يضع يده إذا ما انتبه وصبر بما فيه الكفاية