بمقدار ما أن الدول العربية، التي باتت تدعو إلى رفع العقوبات عن سوريا، تحتاج إلى مبادرات من النظام السوري لدعم مصداقية دعواتها، بمقدار ما أن الدول الغربية المصرّة على العقوبات تحتاج بدورها إلى شهادة عربية شفّافة تثبت أن النظام غيّر سلوكه وأصبح متعاونًا فعلًا في المجالات الأربعة: تسهيل وصول المساعدات الإنسانية، تسهيل عودة اللاجئين والنازحين، وقف إنتاج المخدرات وعمليات تهريبها، المساهمة في التوصّل إلى حلٍّ سياسي للأزمة السورية.. لكن مثل هذه الشهادة متعذّرة. لذا يستمرّ الجدل الذي بدأته روسيا منذ 2018 حين اعتبرت أنها حسمت الحرب عسكريًا وعجزت حتى الآن عن حسمها سياسيًا.

كان مؤتمر بروكسيل السابع «لدعم مستقبل سوريا» معنيًا فقط بمراجعة الأوضاع الإنسانية والجديد في مسألة اللاجئين، وكان هناك في الخلفية ذلك الجمود المهيمن على الحل السياسي منذ صدور القرار 2254 عام 2015. أظهرت المنظمات الإغاثية مجددًا خطورة التدهور المتواصل في الاحتياجات الإنسانية، إذ إن مشاريع «التعافي المبكر» لتحسين مستوى الخدمات تصطدم بمعوّقات. منها مثلًا أن التدمير المتعمّد لشبكات الكهرباء أدى إلى «فقر طاقوي» ينعكس على مختلف المجالات، من تشغيل شبكات المياه إلى خدمات الصحة والتعليم وغيرها. وفتت المنظمات المعنية أيضًا إلى تناقص إمكانات تقديم الأغذية بسبب تناقص التمويل سنةً بعد سنة. لذلك ارتفعت نسبة الأطفال الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي إلى %80، وأعلن برنامج الأغذية العالمي أنه قلّص مساعداته إلى 2.5 مليون شخص (بدلًا من 5.5 ملايين) «لعدم توفّر الأموال الكافية». وإذ تشير تلك المنظمات، ومنها الصليب الأحمر الدولي، إلى «تأثير العقوبات» وتطالب بتوسيع «الاستثناءات الإنسانية»، إلا أنها تشكو من مشكلة دائمة هي اشتراط النظام السوري أن تكون المساعدات بإشرافه ووفقًا لأجنداته الداخلية.

لم يكن التمويل كافيًا في أي يوم، وعندما قال أنطونيو غوتيريش لمؤتمر بروكسيل «نحن نحتاج إلى 11.1 مليار دولار» كان يعلم أن الحصول على نصف هذا الرقم سيكون نجاحًا عظيمًا، وهذا ما حصل فعلًا. فالدول المانحة جميعًا لديها صعوبات اقتصادية ومالية وأزمات ناجمة عن التضخّم وغلاء المعيشة، كما أن دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني من أعباء حرب أوكرانيا وكانت عادةً تقدّم %70 من المساعدات الخاصة بسوريا قلّصت هذه السنة مساهمتها إلى %55، هذا التراجع في التمويل كان متوقعًا في أي حال، سواء لأن الأزمة طالت ولا مؤشرات جدّية إلى أن النظام وداعميه يتطلعون إلى حلّها في مستقبل قريب، أو لأن هناك أزمات أخرى تستجدّ على الساحة الدولية وتزيد الطلب على المساعدات. ولولا أن أوروبا تخشى تدفّق المهاجرين عليها كما في 2016 لكانت مساهماتها تراجعت إلى مستوى أدنى.

تزامن غرق مركب ينقل مهاجرين قبالة شاطئ بيلوبونيز اليوناني مع انعقاد مؤتمر بروكسيل، وكان معظم الذين قضوا غرقًا سوريين، إضافة إلى جنسيات أخرى. لم تتوصّل منظمة الهجرة الدولية إلى تحديد عدد الضحايا (ذُكر أنهم 78 شخصًا) وإذ أمكن إنقاذ 104 كلهم رجال فإن المركب كان يقلّ بضع مئات بينهم نساء وأطفال. هذه الواقعة التي تعتبر بين الأكثر مأساوية أعادت التذكير بهول قضية اللاجئين الذين لفظتهم بلادهم، وهي هنا سوريا بشكل خاص، ولم تعد أوروبا راغبة في/ أو قادرة على استضافة المزيد منهم. كما أنها تسلّط الضوء على الإشكاليات القائمة منذ طردت الحرب ملايين اللاجئين السوريين إلى تركيا ولبنان والأردن والعراق واضطرار الاتحاد الأوروبي للمساهمة في تخفيف أعباء بقائهم في المخيمات التي يوجدون فيها، ولتمويل غذائهم وطبابتهم وتعليم أبنائهم. ومع انحسار خطر تجدّد الحرب زاد عبئهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي على الدول المستضيفة، ولا سيما لبنان وتركيا.

أدّى زلزال (فبراير) الماضي إلى بلورة توجّه عربي مختلف في مقاربة الأزمة السورية، وتمثّل بالانفتاح على النظام وبخطوة مهمة تمثّلت بإعادته إلى عضوية الجامعة العربية، لكن إعادة تأهيله تتوقف على خطوات مطلوبة منه. حدّد «اتفاق عمّان» تلك الخطوات، ومنها العودة الطوعية والآمنة للاجئين، بالتعاون مع الدول المستضيفة وبالتنسيق مع هيئات الأمم المتحدة لتنظيم تلك العودة «وفق إجراءات محددة وإطار زمني واضح». ونصّ الاتفاق على «تسريع تنفيذ مشاريع التعافي المبكر (الخدمات) لتحسين البنية التحتية اللازمة ولتوفير العيش الكريم للاجئين الذين يختارون العودة طوعيًا، بما يشمل بناء مدارس ومستشفيات ومرافق عامة وتوفير فرص العمل، ويسهم في تثبيت الاستقرار». غير أن الوضع على الأرض، اقتصاديًا وأمنيًا، ليس مشجّعًا على العودة «الطوعية»، بسبب النهج العام للنظام في التعامل مع شعبه، وهو لم يُظهر أي ملامح تغيير. صحيح أن حكومة دمشق أشارت في اتصالات بيروت وعمّان معها إلى مراسيم رئاسية تتضمّن عفوًا عامًا ووقفًا للملاحقات وتخفيفًا لشروط الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية.. إلا أن «المراسيم» شيء والممارسات شيء آخر. فالثقة معدومة تمامًا بين النظام والشعب.

أما المساهمة المطلوبة من الأمم المتحدة لتسهيل عودة اللاجئين فتتوقف على الجهات المانحة وهي الدول الغربية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خصوصًا) التي تفرض عقوبات على النظام السوري، لكن آثارها القاسية تقع عمليًا على الشعب السوري. وتجد دول العقوبات نفسها حاليًا أمام واقع عربي يريد التعامل مع النظام على قاعدة أن «ما حصل قد حصل» وأن المهم الآن دفع النظام إلى التعامل مع الواقع الذي خلّفته الحرب. لكن الدول الغربية تراقب الخطوات العربية ولا توافق عليها بل تعتبرها اختبارًا للنظام نفسه، فإذا خطا نحو الحل السياسي فإنه يعطي إشارة يمكن البناء عليها. خلافًا لذلك لا ترى هذه الدول ظروفًا مؤاتية لتغيير سياستها تجاه النظام، أو لقبول شروطه لإعادة اللاجئين.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»