أهل الأهواء في خصام دائم مع الأمن والطمأنينة، لا يعيشون إلا في الصراعات والغوغاء والإثارة، ولذلك مردوا على مصادمة الحكام والتهييج والإثارة عليهم، لأن وجود الحكام سبب للأمن والطمأنينة، وهم لا يريدون ذلك، ولعلمهم بكثرة النصوص الشرعية الثابتة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من دواوين السنة التي تبين مكانة ولي الأمر، وطاعته بالمعروف، وعدم منازعته الأمر، وعدم الخروج عليه أو الإثارة والتهييج، وأن من فارق السلطان شبرًا فمات فميتة جاهلية، وأن الله تعالى لا يكلم ولا ينظر ولا يزكي من لا يبايع السلطان إلا لدنيا فإن أعطاه رضي، وإن لم يُعطه سخط ولم يف، وأن الإنسان عليه الصبر إن رأى من أميره ما يكره. أقول: لمَّا علم أهل الأهواء أن هذه الأحاديث الصحيحة تخالف رغباتهم، ورأوا أن العلماء الراسخين يقررونها ويشرحونها للناس في دروسهم ومجالسهم، وأن من نتيجة ذلك أن الشباب وغيرهم رسخ عندهم تعظيم مكانة ولي الأمر، وطاعته بالمعروف، وعدم الإثارة عليه، ورأوه أمرًا شرعيًا، وعقيدةً راسخة، لمَّا علم أهل الأهواء ذلك ساءهم هذه النتيجة، فسلكوا مسلكين:

الأول: محاولة تضعيف بعض الأحاديث، وما لم يستطيعوا تضعيفه حرّفوا معناه، ليتوافق مع أهوائهم.

الثاني: محاولة إسقاط العلماء الراسخين الذين يبينون هذه الأحاديث، ويشرحونها بعلم وعدل، فصاروا ينعتونهم بألقاب يرونها مُنفِّرة، كقولهم (لا يفقهون الواقع) أو (التقليديون الجامدون) أو(علماء السلطان) أو (علماء الحيض والنفاس) أو (الوعاظ المتمذهبون)، إلى غير ذلك من الألفاظ التي يريدون منها التنفير عن العلماء الراسخين، لا لشيء إلا لأنهم يبينون ما بينته الشريعة من حقوق ولي الأمر، التي هي في النهاية في صالح الرعية وأمنهم وراحتهم.

إن تعظيم العلماء للحاكم المسلم الذي جاءت النصوص بتعظيم مكانته، واعتبرت أن من خرج عن السلطان شبرًا فمات فميتة جاهلية، ولزومهم لإمام المسلمين عملا بالوصية النبوية الواردة في الصحيحين (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) واجبٌ شرعي،

فيا سبحان الله: كيف عَمِيَت بصائر أهل الأهواء، فصار العمل بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ومنه لزوم إمام المسلمين سُبَّة عندهم؟.

والمقصود بـ(الإمام) في الحديث: هو الحاكم الذي له البيعة الشرعية في الدولة، والمقصود بجماعة المسلمين في الحديث: الرعية الذين يعتقدون له البيعة، فلزوم إمام المسلمين شرف؛ لأنه تحقيق لطاعة النبي، عليه الصلاة والسلام، وأما تسمية أهل الأهواء لهم: بعلماء السلطان، فإنه لا يغير من الحقيقة شيئًا، لأن العبرة بالحقائق، لا بالأسماء والألقاب.

وعلماؤنا الراسخون -بحمد الله- ليس لهم فتوى تخالف الكتاب والسنة، وهذه فتاواهم في مجلدات فتاوى اللجنة الدائمة للفتوى، نتحدى أهل الأهواء أن يأتوا بفتوى واحدة تخالف الكتاب والسنة.

وولاتنا -وفقهم الله- هم الذين رفعوا شأن العلم والعلماء، وهم أعز وأرفع من أن يطلبوا من أحد فتوى أو حكما، يخالف الكتاب والسنة، فهم المُعظِّمون للشريعة منذ ثلاثة قرون ولا يزالون وسيظلون -إن شاء الله- ولكن أهل الأهواء لا يعقلون.

ومن العجب أن أهل الأهواء الذين يلمزون أهل العلم بكل لقب يرونه مُنفِرًا، كقولهم: علماء سلطان، وتقليديون جامدون.. إلخ، يتجاهلون واقع حال أنفسهم، وأنهم ليسوا علماء بل عملاء لجهات معادية للاسلام والمسلمين، وأنهم لمَّا لم يروا البيعة لإمام المسلمين الذي أمر النبي، عليه الصلاة والسلام، بلزوم بيعته، ابتلوا ببيعة قيادة الحركات والجماعات والفِرَق المنشقة عن جماعة المسلمين وإمامهم، مخالفين بذلك قول النبي، عليه الصلاة والسلام، (فاعتزل تلك الفِرَق كلها) فلم يعتزلوها بل انضموا إليها.

وهكذا كل من ترك الحق، فإنه يُبلى بالباطل، وكل من لم يطع الله ورسوله، فإنه يُبلى بطاعة النفس والشيطان، قال ابن القيم عن أهل الأهواء:

هربوا من الرِّق الذي خُلقوا له *** فبلوا برِّق النفس والشيطان.

فإن قيل: هناك من يبحث عن مطامع الدنيا فيثني في مكان ويقدح في مكان آخر، ويركب الموجات ويتلون؟، فالجواب: دعاة الأحزاب والجماعات والفِرق وعامة أهل الأهواء من كل التيارات، لهم القدح المُعلّى في ذلك، ومدحهم للحكام في كثير من الدول، ثم القدح فيهم، معلوم، ووسائل التواصل تشهد بذلك بالصوت والصورة، ولست بحاجة ذكر الأشخاص، لأني هنا أتحدث عن أفكار وليس أشخاصًا.

إن التعامل مع الولاة حسب الكتاب والسنة دينٌ وإيمان، لا مجال للكذب فيه والارتزاق، والانتفاع، وإذا كان الناس يعرفون الصادق من الكاذب، فإن الدولة -وفقها الله- بأجهزتها وإمكاناتها تعرف ذلك من باب أولى، والله تعالى لا تخفى عليه خافية، وما كان لله يبقى وما كان لغيره يفنى.