حالما يُذكر اسم التطبيع فإنَّ هذا يستدعي في ذاكرة كثيرين الخطابات التخوينية التي بقيت من حقبة السبعينيات وما تلاها، حين وقَّعت مصر اتفاقية السلام (1979)، ثم بعد مدة تلتها منظمة التحرير الفلسطينية، فوقعت اتفاق أوسلو (1993) ثم وقعت الأردن (1994)، هذه الاتفاقيات شكلت أرضية لموازين جديدة في المنطقة، فمنظمة التحرير التزمت بسياسة جديدة مختلفة، ورجع ياسر عرفات إلى الأراضي الفلسطينية، كما أنَّ الأردن تملك أكبر حدود مع فلسطين، وبالنظر إلى تاريخ مصر فإنَّ توقيعها للاتفاقية أخرجها من دائرة صراع طويل.

ولا شك أنَّ لكل من هؤلاء أسبابه التي دفعته لهذا، فمصر أرادت استرجاع أراضيها المحتلة في سيناء، ومنظمة التحرير وجدت نفسها وحيدة بعد أن أبعد عرفات عن لبنان (1982)، ودخل العراق في نفق مظلم مع اجتياح الكويت (1990)، وانشغل العالم العربي في حل الأزمة، وسقط الاتحاد السوفيتي (1991) الذي كان يحمل شعار حق الشعوب في تقرير المصير ويدعم المنظمات (التحررية) على اختلافها، وكانت الأردن تريد تأمين حدودها، ولا تريد إعادة مربع السبعينات بوجود منظمات مسلحة على أرضها فيما عرف بأيلول الأسود.

هذه هي الصورة قبل الألفية الثانية، التي ابتدأت مع حدثين كبيرين، الأول: الانتفاضة الفلسطينية (2000)، ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001)، التي كانت كارثية على القضية الفلسطينية، إذ إنَّ العالَم جميعه سعى لمحاربة الإرهاب، وسط اشتعال الأحداث الدامية في الأراضي الفلسطينية، فتقلص التعاطف العالمي، وصارت الأكثر انتشارًا في الدول الغربية النظرة التي تدرج ما يقوم به الفلسطينيون على أنه جزء من الإرهاب العالمي، وتبخر الصدى الإعلامي وسط انشغال العالم بأحداث الهجوم على أفغانستان، ثم العراق (2003)، وتوقفت الانتفاضة سنة (2005).

ثم دخل الفلسطينيون في انقسام حاد بعد الانتخابات التشريعية (2006)، بين تيارين رئيسين أحدهما: حركة فتح بقيادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ثم حركة حماس، فبدأ الطرفان قتالًا متبادلًا في غزة، انتهى لصالح حركة حماس فسيطرت على القطاع، فأضحى عندنا -واقعًا- سلطتان، واحدة تحكم الضفة الغربية وهي فتح، وأخرى في غزة وهي حماس، وسواء بالمفاوضات الفلسطينية أو الأعمال المسلحة التي انتهت إلى تحويل غزة إلى سجن كبير، بأكبر كثافة سكانية في العالم، فإنَّ الساسة الفلسطينيون لم يعد بإمكانهم تقديم الكثير لشعبهم، وفق موازين الألفية الثانية، سوى بالإبقاء على اللقاءات، والاجتماعات، التي لم تثمر حتى في مصالحتهم داخليًا.

وفي ظل هذه الموازين الجديدة، فإنَّ رؤى سياسية جديدة تفرض نفسها، ومن بينها الاتفاق السياسي مع إسرائيل، وتقييم هذا الاتفاق إنما يكون بالمصالح والمفاسد التي يراعيها، لا بصيغة رفضه مبدئيًا، وهو أمر لا تسعفه الأطروحات الوطنية، ولا القومية، ولا الإسلامية، فوطنيًا لكل دولة الحق في أن تدرس سياستها الخارجية وفق مصالحها الإستراتيجية، وهو ما فعله كل من وقع اتفاقيات مع إسرائيل بما فيهم منظمة التحرير الفلسطينية، أما قوميًا، فقد أدخل القوميون بشعاراتهم المنطقة العربية بدوامة كبرى كان منها ضرر كبير على القضية الفلسطينية نفسها، ومن يرثي منهم اليوم الحال لا يسهم ولو بخطوة في تقليل الضغط -على الأقل- على الفلسطينيين، وأما إسلاميًا، فقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم الاتفاقات ومنها ما كان مع اليهود في المدينة، وهي أشهر من أن تذكر، ويبقى الأمر مرهونًا بالتزامهم بها، وأعلم أنَّ بعض هؤلاء الذي لا يجيدون تقديم أي حل، يكتفون بلعن الحاضر! ويصرّون على استحضار الماضي وهو حق، لكنه تاريخيّ عن تهجير الشعب الفلسطيني، وأخذ أراضيه، والسؤال السياسي متعلق بفن الممكن لتقديم ما يساعد، لا ما يكتفي بتسجيل الوقائع، فالسياسة ليست درسًا في التاريخ، أو القانون، لكنها في كيفية التحرك وفق الموازين القائمة.

وفي السياسة لا توجد اتفاقات أزلية وأبدية، إنما كل اتفاق مرهون بوقته وموازينه، ومصالحه، التي تتحقق منه، فليس في السياسة اتفاق يماثل الزواج الكاثوليكي، فالاتفاقات لا تنم عن حب أو بغض، إنما عن مصالح، والاتفاق مرهون بما يحققه، وهكذا هو دأب الدول في العالَم أجمع، تختلف وتتفق، ثم قد تتفق وتختلف، وكل هذا تبعٌ للموازين المستجدة، والمصالح المرجوة من الاتفاق أو الخلاف، أما أن تترك السياسة الأمر كليًا، وتجعله رهين دروس التاريخ، والقانون، وشعراء رثاء العدالة، فإنَّ هذا لا يسهم ولو بخطوة واحدة في تقديم الحلول، وهو بعيد تمامًا عن العملية التي تميّز السياسة عن غيرها.