تصاعدت ردود الأفعال الإنسانية في العالم حول الأوضاع غير الإنسانية في غزة فقد صار عاديًا أن يستخدم السياسيون الغربيون مهاراتهم في المناورة في تضليل القضايا الواضحة وإثارة دخان كثيف حولها وجعلها أكثر تعقيدًا بدعوى محاولة إيجاد الحلول.

ولذلك فلن نعرض لهذه القضية من وجهة نظر سياسية بل سوف نتناولها في حدودها الأخلاقية.

وهذا يدفعنا للوقوف على واقع سياسات الغرب وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية وضبط حركتها والتي تضعنا أمام حقيقة واحده وهي أن السياسات الأمريكية في المنطقة لا تقوم على واقع إنساني وأخلاقي وإنما تقوم على المصلحة والقوة.

فالولايات المتحدة الأمريكية، - كما لا يحتاج إلى نقاش - ذات مواقف متحاملة على العرب الفلسطينيين والقضية الفلسطينية وبمرور الزمن أصبحت ثوابت تحكم السياسات الأمريكية مما يلقي بشكوك على مدى مصداقيتها اتجاه العرب الفلسطينيين وقضيتهم العادلة.

فعلى مدى سنوات طويلة لم تستطع السياسة الأمريكية أن تصنع لنفسها أي مصداقية اتجاه هذه القضية الواضحة والعادلة.

واليوم تواجه القضية الفلسطينية معضلة كبرى من جراء السياسات الأمريكية ، وهي معضلة في غاية التعقيد والخطورة، وبالذات بعد أن جهرت الولايات المتحدة الأمريكية بعدائها للفلسطينيين، ومد ذراعيها لدولة إسرائيل العنصرية، ومناصرتها وإقامة أوثق الروابط معها.

إن ما اقترفته الولايات المتحدة الأمريكية بحق الفلسطينيين في الماضي القريب بخلق دولة إسرائيل، وما تفعله الآن من مدها بالمال والسلاح زلة كبرى مهما كانت الذرائع التي تتذرع بها أمريكا حيث تسمي قتلة الأبرياء مناضلين يدافعون عن أنفسهم والمقاومين الفلسطينيين إرهابيين.

لذلك فقد صار عاديًا أن تستخدم الولايات المتحده مهارتها في المناورة في القضايا ذات الطابع الأخلاقي، فأمريكا حين تتناول قضايا حقوق الإنسان أو ظاهرة الإرهاب تتناولها وكأنها ظاهرة طارئة عليها أو أنها خارجة عن ثقافتها تمامًا، وعندما تتداولها في أطروحاتها ومواقفها لا تكون الضحايا بذاتهم هدفًا لتناولها وإنما يكون هدفها تحقيق مقاصد سياسية.

فإذا عرفنا أن الإرهاب ظاهرة غربية أنتجها تاريخ طويل من العنف والحروب في المجتمعات الغربية بأصابع استعمارية القرن الثامن عشر وبمعاركه العالمية الطويلة.

ولهذا فإن تصوير الفلسطينيين أو العرب كجماعة أرهابية إنما هو تنصل من الاستحقاق الأخلاقي وتجنٍ على المعرفة وإبراء الغرب نفسه من تاريخ طويل للعنف والإرهاب ضد المجتمعات الأخرى.

فإذا كان الغرب منذ عصر النهضة وإلى اليوم أصدر منظومة من القوانين والتشريعات في مجال حقوق الإنسان إلا أن المتتبع لتاريخ العلاقات ما بين الغرب والمجتمعات خارج النطاق الغربي يلاحظ المواقف المتباينة والسياسات الانتقائية والتعاملات المزدوجة، وهي معايير تحددها المصالح والمطامع المحضة والمنطق النفعي المادي وليس الحق والعدل.

ففي قراءة للدكتور إدوارد سعيد حول المعايير الغربية التي تحكم قانون العلاقات الدولية وجد أن تلك المعايير لا تبعث على الأمل أو غير مشجعة على الإطلاق في الإسراف في الأمل في مسألة حقوق الإنسان.

فالغرب يتعامل ببراغماتية وانتهازية في آن واحد، فهو لا يتبنى حقوق الإنسان كرسالة أخلاقية إنسانية وإنما وفق منطق نفعي.

وإذ يبدو اليوم بديهيًا في الغرب انفصال الأخلاق عن السياسة ليس نتيجة تناقض أصلي بين الأخلاق والسياسة بقدر ما هو ترتيبات أصلتها النزعة المادية التي حكمت الغرب في كل علاقاته.

ذلك أن البنية المادية التي تتحكم في رؤية السياسات والمصالح جعلت الغرب ينظر للسياسة بعيدًا عن الأخلاق ما يعني ضمنًا أن هوية الصراع الذي تأسست عليه الحضارة المادية الغربية هي التي تتحكم في رؤيتها، وهذا يدلل على أن الثقافة الغربية لا تنجح دائمًا في اختبار الالتزام بالمبادئ والقيم».

وهذا لا ينفي عن الغرب سيادة فكرة الصراع والأخلاق المكيافيلية والمعايير المزدوجة للقيم، فتسليم الغرب للقيم الإنسانية يقوم على منطق نفعي مادي، ذلك أن المادية هي البنية الناظمة لجوهر التفكير الأخلاقي في الغرب، والمادية بطبيعتها تصبح عاجزة عن تقديم الإنسانية المجردة بلا مردود نفعي مقابل.

واليوم تزداد الشكوى عالميًا من أن المثل العليا لا تتحقق في العالم وأنها تتحطم ولا تصمد أمام قسوة الواقع لأنها لا تتطابق أبدًا مع الواقع.

ذلك أن العالم الحديث تشكل على مبادئ الحداثة السياسية وليس على مبادئ القيم الإنسانية فأصبحت المصالح المحركة للسياسة وصارت القيم خارج التفكير السياسي.

وبالرغم من استناد السياسيين إلى القيم الأخلاقية في تبرير سلوكهم في العلاقات الدولية المعاصرة فإن الواقع يقول إن العلاقات الدولية المعاصرة تقوم على المصلحة والقوة وليس على القيم الأخلاقية.

وإذ يبدو بديهيًا انفصال القيم الأخلاقية عن السياسة تبعًا لثبات الأولى وتغير الثانية وذلك ليس لتناقض أصلي بين الأخلاق والسياسة بقدر ما هو ترتيبات أصلتها النزعة المادية التي حكمت الغرب في علاقاته.

فالبنية المادية التي تتحكم في رؤية السياسات والمصالح جعلت من الغرب ينظر للسياسة بعيدًا عن الأخلاق ما يعني ذلك ضمناً أن هوية الصراع الذي تأسست عليه الحضارة المادية الغربية هي التي تتحكم في عالم اليوم.

إذ لا يزال القانون الدولي قانونًا صوريًا يتحرك في إطار مراكز القوى فالمصلحة هي المفتاح السياسي في السياسة.

[ إذ إن هنالك ميزتين تطبعان منهج العلاقات الدولية في الحضارة المعاصرة:

الأولى: تدني مستوى القوة الإلزامية للقواعد القانونية التي تحكم العلاقات الدولية.

والثانية: ضعف الأساس الأخلاقي.

ولذلك فإن القوة هي التي تحكم قانون العلاقات الدولية وبالذات في مسألتي الحق والعدل. -]

يقول الشيخ صالح الحصين: إن معرفة الحق والعدل في القضايا الدولية أو القضايا البينية للدول لا تكفيان بذاتهما ما لم تكن هنالك قوة تقف إلى جوارهما.

فقيمتا الحق والعدل في قانون العلاقات الدولية لا يملكان سلطانهما الأخلاقي ما لم تصحبهما قوة وعلى النقيض من ذلك فإنه يمكن للقوة المجردة أن تصبح معيارًا للقبول بحكم الأمر الواقع بعيدًا عما إذا كان من يحوزها محقًا أم غير محق؟

وقد لمس العالم نتائج ذلك في بنية العقل الغربي حين يفرق بين العدل والحق من ناحية والقوة والمصلحة من ناحية ثانية في العلاقات الدولية وذلك بناء على منطق القوة والمصلحة لا منطق العدل والحق لهذا كثيرًا ما تسمى السياسة الدولية بسياسة القوة.

ذلك أن إخفاق الثقافة الغربية في رعاية القيم الإنسانية وعدم مقاومة النزعة العدوانية هو أن تسليم الثقافة الغربية بالقيم الإنسانية ليس تسليم الإيمان القلبي بل تسليم المنطق النفعي وهو العامل الأخطر الذي لا يحقق العدل والحق الإنسانيين وتعميمهما على جميع البشر.

ولكن على أي حال الدماء التي سالت في غزة كانت دماء عربية، مات أطفال عرب، ونساء، وشيوخ، وهدمت مساكن، ومساجد، ومستشفيات، وخربت أحياء سكنية، ومات أطفال أبرياء تحت أنقاض المباني، وشردت عائلات.... هؤلاء أبرياء وذو قربى وعرب.

أن تصير ضحية لا بواكي لها، وفريسة ضائعة لمجرد كونك عربيًا أمر حزين، وعندما تبحث عن الأمان من عند الغرب فهذه هي الكارثة بعينها.