في الوقت الذي يهتم فيه السعودي بالعطور، ويحرص على اقتناء أجودها، يوضح خبراء في العطور أن هذا الاهتمام لم يقتصر على الاستهلاك فقط، بل عرفت السعودية صناعة العطور منذ أكثر من 6 عقود. كما تميزت العطور السعودية بالجودة والسمعة، وباتت لها أسماؤها وعلاماتها التجارية المعروفة والمطلوبة.

وبينما تتفرد عدد من المناطق مثل جازان والطائف بالورد الذي تصنع منه العطور بامتياز ملحوظ، قامت إلى جانبها صناعة العطور السعودية، وعرفت بها عائلات وشركات لها حضورها التجاري المميز على أسس علمية وتجريبية جيدة، وهو ما شجع على إطلاق مزيد من المطالبات بإيجاد صناعة عطور أكثر توسعا، بما يخلق صناعة تحويلية واسعة الطيف على الأخص في جازان والطائف، وغيرهما من المناطق حيث يكثر الورد والنباتات العطرية.

ستة عقود

كشف رئيس مجلس إدارة مصنع القرشي للورد المدرب الوحيد المعتمد في مجال زراعة وصناعة الورد الطائفي منذ 2007 نائب رئيس اللجنة الزراعية بالغرفة التجارية بالطائف، راشد بن حسين القرشي، أن انتشار العطور بدأ في المملكة بصفة عامة قبل نحو 60 عامًا تقريبًا، مشيرًا إلى أن هناك عدة شركات عملت، وعدة أسر معروفة أنتجت وشاركت في هذا المجال.

وقال: «للعطور أساسيات وقواعد وقياسات، ولكل عطر قلب وقاعدة وهرم ونسب، ولا بد أن تكون مركبة على أسس علمية محددة وصحية قبل أن تكون عطرية، لأن هذه المواد ستختلط بالجسم والجلد والبشرة، وبالتالي فإن مأمونيتها وسلامتها تحتلان المقام الأول من حيث الأهمية والعناية». وأشار إلى أن هناك أنواعا من العطور لها سلبياتها وتأثيراتها السيئة عند الاستخدام الآدمي، مشددا على أن «من يصنع العطر لا بد أن يتحلى بالخبرات والقدرات التي تمكنه من إنتاج العطور الملائمة صحيا».

ورد الملوك

بيّن القرشي أن أفضل منتج عطري لدى مصنع القرشي هو «ورد الملوك»، مشيرا إلى أن عدة جهات حاولت إنتاج هذا العطر لكنها لم تنجح في الأمر. وأكد: «بقي هذا أفضل منتج توصلنا إليه، لأن الشركات بصفة عامة لا تستطيع عمل الورد الطائفي بخاخا (إسبريه)، لأنه حين يكون تحت درجة حرارة أقل من 18 درجة يبدأ بالتكسر، ولكن، ومن خلال الخبراء والبحوث الكيميائية المتعددة، نجحنا في الوصول بالورد الطائفي إلى درجة الصفر من دون أي تكسير».

ولفت إلى أن «ورد الملوك يعد أفضل منتج لدينا، لأنه عادة حينما يستخدم المستهلك العطر يلامس الجسم، والجسم يفرز كمية كبيرة من الأملاح، وهذا المرود الذي يخلط بالزيت حينما يوضع على الجسم، وتتم إعادة المرود إلى علبته، فإنه ينقل بعضا من أملاح الجسم، ويؤثر بالتالي على جودة ورائحة الدهن، لذلك توصلنا إلى مواصلة حفظ الدهن بكامل جودته، لأنه تم فيه كسر قاعدة الكحول، فماء الورد الطائفي يأخذ جزءا من خصائص الزيت مع الورد الطائفي، وأصبح هذا العطر أو الـ«البخاخ» مكتسبا جميع الجزئيات والخصوصيات التي تأتي في ماء الورد ودهن الورد، وبهذا تكون جميع المركبات اكتملت بكاملها بهذا البخاخ، ما جعله يتميز بجودة عالية تفوق نظراءه».

استعانة بالخبراء

يوضح القرشي أن مصنعهم اكتسب سمعة دولية كبيرة، وحل ضيف شرف في المعارض والمهرجانات الدولية، مبينا أن زراعة وصناعة الورد والعطور حرفة امتهنها وتوارثها من الأجداد. وقال: «استقطبنا عددا من الخبراء، ومنهم المصمم والخبير والمستشار سامي فلاته، عضو جمعية «إيفرا» العالمية للعطور المستشار والمدرب المعتمد والخبير لشركات وجهات متعددة في كندا وأمريكا، وبدأنا في تركيب عطور بأعداد كبيرة وكميات متعددة».

وأضاف: «شخصيا اكتسبت الخبرة من ملازمة والدي في زراعة وصناعة الورد من 1989 حتى 1995، وكانت الانطلاقة في 1996 بمعملين زادا إلى 9 معامل، ثم إلى 12 معملا في 2007، ثم وصلت المعامل إلى 30 معملا». وكشف أن تصنيع جهاز حديث لصناعة عطر الورد استغرق سنتين، وبدأ تشغيله منذ 2015.

خطوات التصنيع

تسير عملية صناعة العطور من الورد عبر مراحل عدة، وأوضح القرشي: «تبدأ خطوات صناعة عطر الورد بجني الورد في الصباح، ويفضل أن يجنى قبل شروق الشمس، بحيث يكون محتفظا بكمية أوفر من الزيوت العطرية قبل تبخر بعضها، وعندما يتم جلبه للمصنع تتم تعبئة الورد بمعامل نحاسية، ويغطى ويأخذ نسبة من الماء مع نسبة من ماء الورد، ويأخذ تقريبا 3 ساعات ونصف الساعة إلى أن يظهر الزيت في أول «تلقية»، وهي تسمى «تلقية» لأنها تتلقى ماء الورد، فتطفو فوقه نسبة من الدهن الذي يُصفى، ثم يمر بـ3 مراحل، وبعد ذلك يبدأ الخبير الخاص بالعطر في تركيبه».

وتابع: «كل عطر يحتاج إلى تركيب، ولكل عطر قاعدة وقلب وهرم، ولا بد أن تكون النسب متوازنة وبكميات صحية موافقة للمواصفات والمقاييس حسب معايير جمعية «إيفرا» العالمية للعطور».

وأكمل: «تركيبنا للعطور تختلف عن أي مصنع، لأنها ليست ترکیبات عادية، وإنما هي طرق وقياسات لكل عطر».

استخلاص الزيت

بالنسبة لاستخلاص الزيت من الورد الطائفي، أفاد القرشي: «نبدأ بأخذ التعبئة في المعامل، وتشغل عليها الأفران، وتستمر القطفة الأولى ثلاث ساعات ونصف الساعة، ويطلق عليها اسم «العروس»، ويطفو فوقها الدهن، والقطفة الثانية يطلق عليها اسم «الثنو»، وتأخذ الوقت نفسه (3 ساعات ونصف الساعة)، والدرجة الثالثة من ماء الورد تأخذ أقل من 3 ساعات، لأنها 20 لترا فقط. هذه المراحل تُخرج ماء ودهن الورد الطائفي، ويصفى الدهن بطريقة معينة، ويقطف في براويز خاصة، ثم يأخذ 3 مراحل تصفية من الشوائب والمواد النحاسية حتى يصفو الورد الطائفي تماما كمادة زيتية، وعندما يتم تركيبه في أي عطر يؤخذ هذا العطر، ويتحول إلى المعمل».

كسر القاعدة

شدد القرشي على أنهم سبق لهم أن كسروا قاعدة عالمية في عالم العطور، موضحا: «كل عطر يستخدم في الدنيا يجب أن تكون نسبة الكحول فيه من 70 إلى 90، وحتى إلى 95% أحيانا، والورد الطائفي الذي لدينا سميناه «ورد الملوك»، وكسرنا فيه هذه القاعدة بـ50% ماء ورد مقطر يبدأ تركيبه وعملية البحث الكيميائي فيه بحيث لا يتجمد الورد الطائفي عند 16 درجة، ويوصل لدرجة الصفر، ومنها ركبنا هذا العطر بمواصفات عالية ومطابقة لمواصفات جمعية «إيفرا» العالمية للعطور».

صناعة العطور

من جهته، يشرح مصمم العطور الخبير بمصنع القرشي للعطور سامي محمد فلاته صناعة العطور، قائلا: «إنها من أقدم الصناعات، وكانت العطور تستخدم قديما كدهن، ومع مرور الوقت أصبحت تتطور بشكل ملحوظ حتى باتت بأشكال واستخدامات مختلفة، منها عطور الجو والجسم والشعر».

وشرح طريقة صناعة العطور: «إنها تمر بمراحل عدة: الأولى هي اختيار الزيت العطري المناسب بناء على استخدام الوقت المناسب له. ثانيًا يتم وضع بعض المواد المساعدة على أداء العطر مثل الفواحات، ومن ثم يتم خلطه مع الكحول، وتعتيقه فترة من الوقت. أما الخطوة التالية فهي ما بعد التعتيق، حيث يمر بمرحلة تسمى «التبريد»، وهي مرحلة مهمة جدًا لجمع الشوائب». وأكمل: «تمر العطور بخطوط فلترة لتصفيتها، وتتم تعبئة العطور في الزجاجات المخصصة، وبعد ذلك ننتقل إلى مرحلة كبس الغطاء، ويمر العطر إلى التغليف».

متدربون



منذ 2007 بدأ مصنع القرشي في تخريج متدربين ومتدربات خضعوا لدورات في زراعة وصناعة الورد، حيث خرج 117 متدربًا ومتدربة، وكان المصنع من أوائل المشاركين في مشروع «بادر» بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية منذ 2015. كما حصل على شهادة أفضل منتج لعطر الورد الطائفي الطبيعي من شركة «ياس» الإماراتية للعطور العالمية في 2018، وحصل على شهادة الأيزو الإدارية والغذائية الأمريكية في 2019.

وافتتح المصنع الرئيس في الهدا بالطائف أبوابه للزوار، وبدأ من 50 زائرا إلى أن وصل إلى أكثر من 3000 زائر في اليوم الواحد في بعض الأوقات. كما تزوره أكثر من 10 وفود رسمية كل عام، بينما يتولى مرشدون معتمدون وأكفاء شرح آلية صناعة الورد لمختلف الوفود الزائرة بلغاتهم المختلفة.

نباتات عطرية

إلى جانب الورد الطائفي الذي يستخدمه مصنع القرشي، قامت صناعات تحويلية عدة في مناطق أخرى من المملكة. ففي جازان اشتهر الفل كنبات عطري مهم إلى جانب «الخطور» و«النرجس».

وتشتهر المناطق الجبلية من منطقة جازان حتى اليوم بـ«العصائب» و«المشاقر» التي يلبسها الرجال على الرأس بشكل يومي، حيث اعتمد الأجداد في تلك المنطقة على النباتات العطرية لتعطير ملابسهم وأجسادهم، بالإضافة إلى أن تلك النباتات تساعدهم في الاسترخاء والإحساس بالراحة.

في المقابل، تستخدم النساء تلك النباتات على نطاق أوسع، حيث تدخل في الزينة وتعطير الشعر والجسم والطبخ والاسترخاء. كما يستخدم الفل بشكل خاص كنكهة للماء.

زيوت وبخور

اهتم الجازاني بالنباتات العطرية، حيث استخرج منها الزيوت العطرية، وعطر بها البخور، وصنع منها مساحيق للشعر تخلط مع الزيوت العطرية بغرض تعطير الشعر وزيادة الفوحان والثبات. بينما عمدت الجازانيات سابقا إلى زراعة النباتات العطرية قديما في منازلهن إما للزينة أو العطر أو للطعام. والآن في وقتنا الحاضر مع التمدد العمراني، أصبحت الزراعة في المنازل أقل من السابق، بينما ما زالت المزارع تبدي اهتماما كبيرا بزراعة النباتات العطرية ومواسم حصادها بسبب الاعتماد على الزراعة التحويلية من مصانع العطور في المملكة.

تشكيلات الفل

وعرفت من الفل أنواع عدة، منها الفل العريشي والفل البلدي والفل الضمدي والفل العزاني. وبينما صنعت منه عقود الفل «الكبش» و«مسابح الفل» التي يتم تنظيمها لتزيين الشعر، استحدثت في تنظيمه أشكال متعددة، منها: الكوفية وتشكيلات الورد بالفل. كما دخل في نظم الفل أخيرا الصمغ والقماش، بعدما كان ينظم سابقا بالخيط والإبرة، وتوضع فيه فقط. كما تنثر حبات من الفل بين الملابس بغرض التعطير، وهناك صينية الزينة لتعطير المنزل. كما يضاف الفل كنكهة مع ماء الشرب، ويوضع على أقدام العروس مع العطور والخطور.

زراعة للتصدير

ازدادت نسبة الزراعة التحويلية المخصصة لتصدير الإنتاج من جازان إلى بقية مناطق المملكة، وحتى إلى خارج المملكة، حيث تزدهر هذه الزراعة في الشقيري بـ70%، وتتوزع الـ30 % الباقية بين باقي المحافظات في منطقة جازان، وهي تعد محل اهتمام شركات الأدوية والعطور عالميا.